بقلم :د. محمود خليل
يصف بعض النخبويين العقل الدينى الشعبى بالميل إلى الرفض الجامد والمتعصب لأفكار تطوير أو تجديد الفكر الدينى، وأنه يعلى من شأن النصوص الموروثة ويتشبث بما حفظ من متونها، أكثر مما يلتفت إلى تحولات الواقع. البحث العملى فى تصورات العقل الدينى الشعبى للعلاقة بين النصوص الموروثة والواقع يقول غير ذلك، ويؤكد أن العقل الشعبى يتمتع بنوع من المرونة الواضحة عند النظر إلى طرفى معادلة «النص - الواقع».
يثمّن العقل الدينى الشعبى ويقدّر سلطة الواقع، بل وأحياناً ما تتفوق هذه السلطة فى تأثيرها على سلطان الموروث، وفى حالة التعارض أحياناً ما يغلب العُرف على النص، أو الواقع على التراث.
فالعقل الشعبى يولى أهمية للواقع وما يسوده من أعراف وتقاليد ومتغيرات جديدة على مستويات متنوعة.
واللافت أن الأفراد العاديين أحياناً ما ينتصرون لمعطيات الواقع أكثر مما ينحازون إلى أحكام الشرع، وذلك فى حالة تعارض المصالح.
على سبيل المثال نجد أن بعض الأفراد العاديين لا يرون غضاضة فى إيقاف العمل بأحكام الشرع التى تنص على توريث المرأة، جرياً على الأعراف والعادات السائدة فى بعض البيئات الريفية والتى تحرم المرأة من الميراث، حتى لا تخرج الثروة العائلية إلى أغراب (الأزواج)، ففى هذه الحالة يعطلون حكم الشرع خضوعاً للعرف السائد، والأمر نفسه ينطبق على مسألة تعدد الزوجات، حيث ترفض الكثير من السيدات هذا الحكم، من منطلق أن الواقع الحالى لا يرضى بفكر التعدد، والعرف السائد فيه هو الزواج بواحدة.
فالعادات والتقاليد بالنسبة للفرد تعد بمثابة «دستور الممارسات اليومية»، ما يعنى أن التدين الشعبى أرض وسط بين الدين والعرف، والعادات والتقاليد هى النتاج الطبيعى للامتزاج بين الدين والعرف، لذا تبدو ممارسات التدين الشعبى شديدة التنوع، بحسب البيئات ونظم المجتمع والأحوال الاقتصادية والأنماط المعيشية.
فالتدين الشعبى نمط معيارى مؤسس على نصوص مرجعية من الكتاب والسنة، ومحدد بأبعاد الواقع الثقافى والاقتصادى والاجتماعى والتاريخى السائد فى مجتمع ما، وبالتالى، يمكن اعتباره إرثاً اجتماعياً وثقافياً يتم تناقله من جيل إلى آخر، ما يجعله سلوكاً اجتماعياً أكثر من كونه سلوكاً عقائدياً.
فى ضوء ذلك يصبح من الضرورة بمكان أن يستوعب القائمون على أمر تجديد الخطاب الدينى مسألتين أساسيتين، أولاهما: مسألة التحولات الزمنية، وثانيتهما: أخذ الأعراف السائدة فى الاعتبار عند طرح أفكار التجديد.
من الواجب على من يقدمون أفكار تطوير الفكر الدينى التنبه إلى أن الانتقال من زمن إلى زمن، بما يترتب على ذلك من تحولات فى الواقع، هو العنصر الأهم والأكثر حسماً فى تجديد الخطاب الدينى وتطويره. فنجاح أفكار التجديد يرتبط بالعنصر الزمنى، وبالتالى لا بد من منحها الفرصة كاملة لترسخ كجزء من العرف العام.
من الضرورى أيضاً البحث عن مساحات التجديد التى تتناغم مع العرف السائد، وطرح الأفكار التى تتواءم مع السائد اجتماعياً وعرفياً. فمثل هذه الأفكار من المتوقع أن تلقى قبولاً أكثر من غيرها عندما يتعلق الأمر بتجديد الخطاب الدينى.