بقلم :د. محمود خليل
من يعجز عن إدراك الممكن عليه ألا يبحث عن المستحيل.. ومن يصعب عليه السيطرة الجزئية عليه ألا يحلم بالسيطرة الكاملة.. ذلك هو الدرس الذى يصح أن نستخلصه من تجارب تاريخية عديدة وأخرى عاصرناها.
هذا الدرس تستطيع أن تستخلصه من مراجعة تجربة الضابط العثمانى إسماعيل باشا أنور، الذى أصبح حاكماً فعلياً لتركيا العثمانية عام 1908.
كان «الباشا» صاحب تفكير قديم، يريد أن يعيد تجربة الفتح العثمانى إلى واجهة المشهد العالمى من جديد، لم يدرك صاحب الكراكيب الفكرية أن الزمان اختلف، وأن ما كان ممكناً بالأمس، بات مستحيلاً اليوم. عاش الرجل يقتات على حلم مستحيل بالسيطرة على العالم وحكم الكرة الأرضية، وهو الحلم الذى عجز عنه من قبل من هو أشد قوة وأكثر ذكاءً منه.
انطلق إسماعيل باشا فى خوض حرب ضد روسيا تحت شعار استعادة أراضٍ كانت تابعة فى الماضى للدولة العثمانية، فوضع نفسه فى مواجهة شوكة الروس المعروفة بقوتها، خصوصاً حين يهاجم أحد أراضيهم، ظن أن بإمكانه أن يحقق المستحيل مع الروس، فى وقت كان يعجز فيه عن السيطرة الكاملة على حكم تركيا، وكانت النتيجة حرباً ضروساً بينه وبين الروس، مات فيها ثلث جيشه من الترك، وأصيب فيها عشرات الألوف.
عاد مهزوماً مدحوراً إلى بلاده، وبدأ يتهم جزءاً من شعبه، وهم الأرمن، بأنهم السبب فى هزيمته، كذلك يفكر محدودو القدرة وضعيفو الأداء، حين يفتشون عن أسباب من خارجهم لتبرير كل فشل يقعون فى حبائله. عجز أمام الروس فأعطاهم ظهره وانسحب من المواجهة معهم، واستدار إلى الحلقة الأضعف داخل تركيا، وهم الأرمن، رغم أن واحداً منهم أنقذه من موت محقق خلال معركته مع الروس فى بلاد القوقاز.
اتجه «إسماعيل أنور» إلى الأرمن وأعمل فيهم آلة السحق، وأخذ يجتهد فى إفناء عرقيتهم، وتحقيق انتصار وهمى عليهم، وهو الذى كان يفر بالأمس من وجه الروس ممن أوشكوا على النجاح فى قتله فى المعارك العسكرية التى خاضها ضدهم.
قد تتدخل الأقدار لإنقاذ إنسان من محنة معينة، حين تقضى الحكمة السماوية بمنحه فرصة أخرى لإصلاح ما أفسد، إذا أضاعها فعليه أن يستقبل العقاب العادل، وذلك ما حدث للباشا أنور بالضبط، حين لم يستغل الفرصة التى أتيحت له للإصلاح بعد الهزيمة من الروس، بل بادر إلى الافتراء على الأرمن، وكانت النتيجة أن اصطاده الروس فى معركة تالية وأمطروه بوابل من الرصاصات، أدت إلى مصرعه.
أصبح أنور باشا نموذجاً على الشخص الذى يحلم بالمستحيل فى الوقت الذى فشل فيه عن إنجاز الممكن. فقد فشل فيما هو ممكن من إصلاح كان لا بد أن يلتفت إليه فى الداخل التركى، بل توجه بكل قدرته وطاقته إلى مواجهة الروس عسكرياً وفى عقر دارهم، ومن المعلوم أن أوضاع الطقس والتضاريس كثيراً ما أعجزت أية قوة مهما كانت إمكانياتها عن النجاح فى ذلك.
ظن الرجل أن بإمكانه النجاح فيما أخفق فيه نابليون.. فكان الفشل حليفه.