سقط الكتاب من يده فجأة.. نزلت ستارة سوداء حجبته بشكل كامل عن العالم من حوله، شعر أنه يغوص فى بئر عميقة شيئاً فشيئاً.. وجد الشيخ عبدالعظيم بهيئته الجليلة وملابسه الأزهرية المهيبة ولحيته الوقورة يبتسم له ابتسامة المحبة التى تعوّد عليها، وبينهما نهر يقف كل منهما على إحدى ضفتيه، أخذ يشير إليه «خالد» بيده، ويبادله البسمات والضحكات الفرحة، وجد نفسه يقول: «الماء هنا ضحل.. أنا قادم لفضيلتك.. الماء ضحل.. الماء». فجأة اختفى الشيخ وبدأت الستارة السوداء تنجاب شيئاً فشيئاً.. سمع صوتاً يقول «رش الميه على وجهه.. اشرب يا خالد.. اشرب» أفاق وجد «نادية» زوجته أمامه وإلى جوارها نجله «عبدالعظيم» وعلى وجهه علامات الرعب.
- نادية: أكيد نسيت تاخد الدوا.. (ثم وهى تنظر إلى عبدالعظيم): ما تقلقش يا حبيبى.. غيبوبة سكر وراحت لحالها.
- خالد (وهو يمسك رأسه): حاسس إن ضغطى مرتفع.
- نادية: ما تقلقش، حالاً هظبط لك الدنيا كلها.
أحضرت عدة أدوية وبدأ فى بلع بعضها واستحلاب بعضها الآخر، ثم طلبت من «عبدالعظيم» إحضار جهازى الضغط والسكر، واطمأنت على القياسات، وتركته ينام لبعض الوقت على كنبته المفضلة.
- عبدالعظيم إلى (نادية): أنا قررت أتجوز.. بنت اسمها «ندى».. شغالة موظفة فى الكلية.. حلوة وطيبة ومن عندنا هنا فى القلعة.
- نادية: دكتور جامعة يتجوز موظفة فى كليته؟
- عبدالعظيم (ساخراً): بلاش التنظير ده والنبى يا شيخة سكينة.. انتى رجعتى البيت؟
- نادية (بغضب): ولد!
- عبدالعظيم: بصى إحنا فى الأول هنعيش معاكم هنا.. وقريب إن شاء الله هجيب شقة ننقل فيها.. المهم آخد الخطوة.
- نادية: قلت لأبوك؟
- عبدالعظيم: لسه.. بس واثق إنه مش هيعارض.
استيقظ «خالد» من نومه، تغدى ثم قام إلى كرسيه الهزاز، وفى يده الكتاب الذى كان يقرأ فيه، أخذ ينظر إلى مدنة أحمد بن طولون كما تعوّد، ثم انصرف إلى متابعة ما بدأ من رحلة كافور الإخشيدى: «حدث فى عصره الزلزلة العظيمة، فخاف الناس، وهربوا إلى الجبال، فدخل محمد بن عاصم الشاعر على كافور وهو فى موكبه فأنشده قصيدة عظيمة منها هذا البيت: ما زلزلت مصر من خوف يراد بها.. لكنها رقصت من عدله طربا. فلما سمع كافور ذلك أجازه على هذه القصيدة بألف دينار. وهيّجت الجائزة المتنبى حتى دخل إلى مصر ومدح كافوراً بقصائد سنية».
ضحك «خالد» من قلبه -وكان بحاجة إلى ضحكة- وهو يقرأ بيت الشعر الذى بلغ صاحبه السماء السابعة فى النفاق، لكن انتبه فجأة إلى ما تنشره الصحف وما تذيعه محطات الراديو وقنوات التليفزيون فى الوقت الحالى من كلام تلهج به ألسنة الطابور الطويل من المنافقين، ثم ضحك من جديد قائلاً: «كل هؤلاء أحفاد ابن عاصم.. يا له من خلوف ولود!». وضع الكتاب جانباً وأخذ ينظر إلى مدنة مسجد «ابن طولون» من جديد، ركّز بصره جيداً فشعر أنها تتمايل. صرخ قائلاً: «المدنة ترقص.. المدنة ترقص.. مصر كلها ترقص».
خرجت نادية على صرخته وضحكت عندما سمعت ما يقول، وهدأته قائلة: «كل شىء ثابت ومتجذر فى الأرض.. لا تقلق».. بعد ذلك بأيام وقع زلزال 12 أكتوبر 1992، حينها كانت «نادية» فى «برج الأحمدى»، المبنى الإدارى للشركة الكبيرة التى أسستها «أحلام»، ارتعبت كما ارتعبت «أحلام» وكل من فى المبنى، لكنها تذكرت صرخة خالد: «مصر ترقص.. مصر ترقص»، وحكت لأحلام بعد أن نفثت الأرض عن ضجرها وسكنت، فنظرت إليها بغضب: «وليه ما قلتيش.. إحنا مش متفقين.. أى حاجة يقولها تنقليها؟.. غبية».
ودّت «أحلام» لو حصلت على هذه النبوءة.. مؤكد أنها كانت ستصبح موضع انبهار الرجل الكبير نفسه، وكان سيقربها منه ويصدق أى كلمة تقولها له بعد ذلك، لعنت غباء «نادية»، وتساءلت: ألا تفهم هذه الغبية أن الديوك والكلاب وغيرها من الحيوانات الأليفة تشعر بالزلزال قبل وقوعه؟.