بقلم: د. محمود خليل
الشعوب تفرح بالعطاء، ولا تنشغل بمصدره، ولا تعتنى بأثره على حاضرها أو مستقبلها.
أوائل سبتمبر عام 1952 أصدر مجلس قيادة الثورة قانون الإصلاح الزراعى، ليحقق واحداً من مبادئ الثورة الستة، المتمثل فى القضاء على الإقطاع.
وزَّع الرئيس عبدالناصر أفدنة باشوات الإقطاع وأمراء العائلة الملكية على الفلاحين، وملَّكهم الأرض. بعدها انطلقت آلة الدعاية التعليمية والإعلامية إلى الحديث عن الاستعمار الغربى والإمبريالية العالمية التى رضيت بأن تكون مصر دولة زراعية، ولا تريد لها أن تتحول إلى دولة صناعية كبرى قادرة على قيادة المنطقة.
أجيال عديدة درست هذه الفكرة فى كتب القراءة، وتربت على عقيدة الدولة الصناعية، وأن الزراعة لا تليق بالشعوب المتحضرة، وكان من بين هؤلاء أطفال ومراهقون من ريفنا الطيب، رسخ فى وجدانهم أن العمل فى الزراعة إرادة من الاستعمار، وليس إرادة أفرزتها وقائع التاريخ أو أنتجتها قوانين الجغرافيا، فرح الفلاح المصرى بالأرض التى حازها، ولهج لسانه بالشكر لجمال عبدالناصر، وابتهج الأبناء بالتعليم والوظائف -بعيداً عن الفلاحة (راجع تبرؤ عبدالهادى النجار من أبيه الفلاح فى رواية زينب والعرش لفتحى غانم).
الكل كان سعيداً، الكبار بتملك الأرض، والصغار بالتعليم، والقيادة بالشعبية التى حققتها. طرف واحد كان يعانى من الاحتقان، هو الملَّاك الذين انتزعت منهم أرضهم. لا بأس أن نقول إن بعضهم أخذها بغير وجه حق وبطرق ملتوية، فتلك حقيقة تاريخية لا يستطيع أن يغفلها أحد، لكن هل توزيعها على الفلاحين كان بحق؟.
انظر إلى المآلات: الأبناء ذهبوا للتعليم والبحث عن الانخراط فى الصناعة، والكبار لم تساعدهم طاقتهم على رعاية الأرض، بدأت رحلة التجريف من أجل البناء، مساحة التربة الزراعية التى حازتها مصر عام 1952، حين كان عدد سكانها 22 مليون نسمة، ثابتة كما هى حتى الآن فى وقت زاد فيه السكان الـ100 مليون نسمة. أقام جمال عبدالناصر -رحمه الله- تجربة صناعية، لكن الإمكانيات لم توفر لها النمو أو الاستمرار، وأهملت هذه المشروعات ولم تجد يداً تمتد إليها لإنقاذها، بل أيادٍ تغرقها.
فرح الشعب بتوزيع الأرض، وانتعشت القيادة بالشعبية، لكن التجربة فشلت، ولم تمضِ إلا سنوات معدودات حتى بدأت الأحزان تتدفق، حين بدأت المؤسسات فى الترهل، والمرافق فى التهرؤ، والاقتصاد فى الترنح، والأرض فى التجريف، والأخلاقيات فى التحلل، والثقافة والتعليم فى التراجع. أما المصانع فحققت بعض الإنجازات، لكنها ظلت تعانى من مشكلات متراكمة، إلى حد أن وصفها خروتشوف فى زيارة له فى مصر بأنها «ورش» وليست مصانع، كما حكى السفير مراد غالب ذات يوم.
شعبنا شغوف بفكرة الحرام والحلال. فهل فكر أحد من أبناء الخمسينات فى حُرمة أو حل الفدادين التى حصل عليها؟. يقول البعض إن الشيخ عبدالمجيد سليم، شيخ الأزهر أوائل الخمسينات تبنى موقفاً معارضاً لقانون الإصلاح الزراعى وأعلن عدم مشروعيته، وذهب إلى أن الحكومة أمامها عدة سبل أخرى لإنعاش الفقراء من خلال رفع قيمة الضرائب، أو باستحداث سياسات جديدة تفتح استثمارات جديدة تستوعب البطالة والفقر.
الشيخ «سليم» كان معروفاً بصلابة مواقفه، وصراحة فتاواه، وعدم اكتراثه بموقف السلطة -حينذاك- من آرائه، وقد أدى على هذا النحو أيام الملك فاروق، وظن أن بإمكانه المواصلة على الوتيرة نفسها بعد الحركة المباركة، فينفعل به الشعب أو يتفاعل معه، ولكن هيهات.. فحيثما ظهرت المصلحة تعطلت لغة الحرام.