بقلم: د. محمود خليل
هذه الفكرة بحاجة إلى التذكير بها، وتتعلق بالتنوع والاختلاف بين البشر الذى يعد قانوناً من القوانين التى جبل الله تعالى الناس عليها: الاختلاف فى اللسان والألوان «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ». والاختلاف فى الشرائع وطرق الحياة: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا». والاختلاف فى الهوية: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا». وقد نص القرآن الكريم على أن التوحد أو الواحدية فى التوجه بين البشر أمر يرقى إلى مرتبة الاستحالة: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ».
التنوع ما بين البشر أساس العمران، كما ذهب «ابن خلدون». غياب التنوع مهلكة للإنسان، وتعطيل للحياة.
لا يوجد إنسان مهما أوتى من قدرات يمتلك الحكمة كاملة، لو كان ذلك كذلك لاختفت فكرة المجتمع، ولأصبح كل فرد دولة أو أمة بذاته. مفهوم الفرد الأمة لا ينطبق حتى على الأنبياء المؤيدين بالوحى، هم أئمة للبشر ولا شك فى ذلك، فهم رسالة السماء.يقول الله تعالى: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً». ومعنى كلمة أمة فى الآية الكريمة إماماً يقتدى به الموحدون ومن أسلموا وجههم إلى الله تعالى.
نبى الله إبراهيم لجأ إلى الإقناع والإفهام عندما اختلف مع المشركين فى عصره، حاجج المشركين بالعقل والمنطق فى واقعة تحطيم الأصنام، وقرع «نمرود العراق» بالحجة حتى بهته. كان أبو الأنبياء عقلاً يمشى على قدمين، يبحث عن التجربة حتى فى مقام الإيمان بالله.
يقول الله تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى». لم يتركه الله تعالى وإنما أثبت له بتجربة حسية مباشرة عملية إحياء الموتى.التنوع سمة من سمات العقل الباحث عن الحقيقة، وخصلة من خصال النفس المؤمنة بأن كل «ابن آدم خطاء».
الأنبياء كانت لهم العصمة من الله. خاطب الله تعالى نبيه محمداً قائلاً: «وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا». نبى الله موسى طلب من الله تعالى أن يؤيده بوزير من أهله عندما هم بالذهاب إلى فرعون: «وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى».
لم يُرد موسى عليه السلام أن يتخذ القرار وحده أو أن ينفرد بالأمر، بل تمنى العون من أخيه «هارون».
لقد مر موسى بموقف مزلزل قبل هذه الواقعة عندما هم بقتل قبطى جديد من أبناء مصر انحيازاً لواحد من قومه (بنى إسرائيل)، فواجهه القبطى بقوله: «قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِى الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ».التنوع قانون فاصل فى حياة البشر، بل قل هو القانون المؤسس لحياتهم.
إذا غاب التنوع انكشفت المجتمعات، واهتزت أركانها. الاختلاف فى الأذواق يروج السلع، والاختلاف فى الأفكار يثرى العقل، والاختلاف ما بين التجارب الإنسانية يدفع بالحياة إلى الأمام.
هكذا خلق الله البشر وكذلك أراد لهم من أجل صلاحهم: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». صدق الله العظيم.