بقلم: د. محمود خليل
المجتمعات التي فقدت عقلها تعيش حياة مزيفة، ما أكثر الأحاديث المعسولة التي تسمعها تتردد في أنحائها، ولكنك إذا فتشت في تفاصيل سلوكيات أفرادها وأدائهم فسوف تجد العكس تماما، تسمع صوتا يحدثك عن أهمية العقل وقيمته باللسان، في حين تجد الأفعال هوجاء عابثة، صوت آخر يحدثك عن الكرم والعطاء، ثم تجده أكثر من يغل يده عن أي عطاء.
أسهل شيء على أبناء المجتمعات التي فقدت عقلها هو ترديد الشعارات التي تطرب السامعين، لكنك إذا فتشت في الأفعال فستجد واقعا مغايرا تماما، المجتمعات التي فقدت عقلها لها حياتان متناقضتان: حياة متألقة في الكلمات، وحياة منطفئة في الواقع.
يقول الله تعالى في محكم آياته: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».
إنها قمة السفه أن تجد بشرا يأمرون الناس بالبر والأعمال الخيرة في وقت لا يصنعون فيه إلا السوء وأحط الأعمال، والمثير أنّ هؤلاء الناصحين يقعون في هذا التناقض الخطير بين الأقوال والأفعال وهم يتحدثون باسم الدين (وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)، فأين العقل في ذلك؟
يقول المفسرون إنّ هذه الآية الكريمة نزلت في شأن اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه، وقال بعضهم إنّها نزلت أيضا في شأن المنافقين الذين كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصيام، ثم لا يصلون ولا يصومون ويأتون كل رديء من السلوك.
فالفرد أو المجموع العاقل لا يؤدى على هذا النحو، فينصح بقول ثم يأتي عكسه، بل تتسق أقواله مع أفعاله، ولا يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه، إنه التناقض الذى نبه إليه نبي الله شعيب حين خاطب قومه، كما يحكى القرآن الكريم، قائلاً: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».
المتاجرة بالشعارات مظهر من مظاهر التردي العقلي، وغالبا ما يعقبه تحول يصير فيه الأفراد مخالب تنهش فس بعضها البعض، وعملية النهش هنا تتم تحت أرقى الشعارات وأجمل الكلمات، وقد لا أبالغ إذا قلت لك إنّ الأمر قد يصل في أحيان إلى الاعتداء على حقوق الآخرين باسم الله، والله تعالى بريء ممن يلعبون هذه اللعبة، التي يرفعون فيها شعارات البر وهم يمارسون السحق على الآخرين.
هل تذكر تلك العبارة التي سكَّها نجيب محفوظ في إحدى مجموعاته القصصية: «الشيطان يعظ»، إنها تعبر لك عن فخ التناقض الذي تقع فيه المجتمعات التي فقدت عقلها، حيث يكون حديث الوعظ من أكثر الأحاديث التي تشيع فيها، ولكن عندما تفتش عن السلوكيات تجدها لا تستند إلى قيم أو مبادئ أو أخلاقيات.
إن أحاديث العظة في مثل هذه الأحيان تتشابه مع الشيطان حين يعظ، وقد حكى لنا القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».
تخيل الشيطان بعد أن يضل الإنسان يتبرأ منه ويعظه ويقول له: «إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».. هل هناك ضلال وفقدان للعقل أكثر من ذلك؟