بقلم :د. محمود خليل
الإنسان محتوى قبل أن يكون منظراً.. هل تذكر الإفيه الشهير الذى نحته المبدع الراحل وحيد حامد وأجراه على لسان أبطال فيلم «المنسى»: «هو الفيلم ده قصة ولّا مناظر؟».
هناك من يبحث عن المحتوى فى ما يقرأ أو يسمع أو يشاهد.. وهناك من يبحث عن المناظر.. وحقيقة الأمر أن العاقل هو من يجمع بين الحسنيين.. فالمنظر مهما كان جميلاً وآسراً يفقد قيمته إذا جاء فارغاً من المحتوى.. والمحتوى مهما كان عميقاً وثرياً بالقيمة، فإنه يفقد الكثير من تأثيره إذا تم تقديمه بمنظر أو بشكل سيئ.
فى دنيا الفن.. يزداد المنظر جمالاً كلما كان قريباً من الواقع وبعيداً عن التكلف أو الاصطناع.. فالصور الواقعية والمناظر الطبيعية هى الأكثر جمالاً وتأثيراً، لأنها تحمل محتوى، أما الصور والمناظر المصنوعة فعملات زائفة مهما بدت لامعة ومتألقة، يظهر زيفها بمجرد غسيل الوجه.
انظر على سبيل المثال إلى فنان مثل محمود المليجى، لقد ظل هذا الرجل يمثل حتى آخر لحظة فى حياته، حين وافاه الأجل داخل الاستوديو أثناء تصوير بعض مشاهد فيلم «أيوب»، كما حكى عمر الشريف ذات يوم.
وصفه عمر الشريف بالعبقرى، وتحدّث عنه رشدى أباظة كأكبر فنان فى مصر، وأنه عملاق فى قدراته كممثل، وذكر أنه تمنى أن يصل فى مستواه الفنى إلى ما وصل إليه «المليجى».
لم يحصل محمود المليجى على البطولة المطلقة فى الكثير من الأفلام التى شارك فيها، ومع ذلك فكل دور قام به ترك بصمة فى وجدان مشاهديه، وظل مؤثراً بإمكانياته الفنية الخصبة الثرية، وبقدرته على تقديم محتوى إنسانى عميق، حتى آخر لحظة فى حياته.
لم يكن المليجى فى وسامة عمر الشريف أو رشدى أباظة، ورغم ذلك كانت أدواره أعمق أثراً، لأنه كان يعمل على المحتوى أكثر مما يشتغل أو ينشغل بالمنظر.. كان المحتوى أهم بالنسبة له من المنظر.
استمتع على سبيل المثال بأدوار «المليجى» فى فيلم «الأرض» أو فيلم «الإيمان» أو فيلم «الناصر صلاح الدين» وغيرها، وراقب أداء الفنان الكبير، وستعرف الجماليات التى يحملها الأداء الفنى الذى يعتمد على المحتوى بالأساس.
أمامك نموذج آخر فى الفنانة أمينة رزق التى تألقت «سينما ومسرح وإذاعة وتليفزيون»، انظر إلى أداء هذه القديرة التى تبكيك وتبهرك بأدائها فى فيلم «أعز الحبايب»، وتجعلك تضحك من قلبك حين تشاهد أداءها فى مسرحية «إنها حقاً عائلة محترمة».
مثلها مثل محمود المليجى لم تحصل أمينة رزق على البطولة المطلقة، ورغم ذلك بقيت أدوارها علامة فى شارع الفن الذى يُعلى قيمة المحتوى، ولم تستطع جميلات وفراشات السينما المصرية ممن عاصرنها أن يحظين بما حظيت به من تأثير، لأن بعضهن اعتمد على «المنظر» بدرجة أكبر من الارتكان إلى المحتوى.
المخجل أننا وصلنا بعد جيل الممثلين والممثلات ممن تنافسوا فى ما بينهم بما يملكونه من قدرات فنية ووسامة أو جمال إلى جيل بعض من يتصدّرون الصفوف الأولى فيه لا منظر ولا محتوى، ويبدو أن أغلبهم أو أغلبهن دخل سوق الفن بـ«الواسطة»، وتركوا المواهب الحقيقية التى تتزاحم فوق أرض المحروسة ينامون على «البسطة».