بقلم - د. محمود خليل
تطرق القرآن الكريم إلى مسألة "الشغف"، وبيّن معناها ودورها كوقود يحرك الإنسان نحو الأشياء والأشخاص.. فالشغف يعني فرط الحب الذي يسوق الإنسان إلى صناعة الأعاجيب في سبيل ما أحب. ولو أنك تأملت الآية الكريمة التي وردت فيها كلمة الشغف في القرآن الكريم، فسوف تجد أنها تحمل هذا المعنى بامتياز.
يقول الله تعالى: "وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين".. لم يكن نبي الله يوسف أكثر من عبد من بين عبيد "العزيز"، وعبد أيضاً لامرأته سيدة قصر الحكم، يعمل في خدمتهما ويأتمر بأمرهما.
كانت امرأة العزيز تراقب "يوسف" عن بعد وتتابع سلوكه، وقفت منبهرة أمام رزانته، وحمكته في التعامل مع الأمور وإدراتها، وقدرته على الاستنتاج، واستشراف القادم. يتصور البعض أن كل ما لفت نظر سيدة القصر إلى "يوسف" هو جماله، وظني أنها لم تكن من التفاهة إلى هذا الحد، والقرآن الكريم لم يشر إلى جمال يوسف قدر ما أشار إلى عقله وحكمته، وقدرته على بناء سيناريوهات المستقبل، وإدارة المال والأعمال، بالإضافة إلى العبقرية في التعامل مع الأزمات.
ورغم ما يحمله وصف "ملك" الذي خلعه عليه نسوة المدينة من دلالة على الجمال، وهو الوصف الذي تحمله الآية الكريمة التي تقول: "فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم"، إلا أن المعنى الأعمق له يدل على الكمال، كمال الخلقة وكمال الخلق.
لقد أحبت امرأة العزيز نبي الله يوسف لأنه كان رجلاً مكتمل الرجولة، هيئة وعقلاً ووجداناً، وشغفت بهذا الحب، أي لامس قلبها، أو كما يقول المفسرون مس غلاف قلبها، ثم تسرب إلى داخله، فملك عليها أمرها، وساق السيدة الرزينة الجميلة -مكتملة الأنوثة أيضاً- إلى الإتيان بأفعال غير متوقعة، وصناعة الأعاجيب من أجل أن تصل إلى فتاها.
وقد وصل الأمر بها إلى حد مراودته عن نفسه، وهو العبد الذي يأتمر بأمرها، فامتنع عنها، وفر منها، وتمسك بأهداب إيمانه وخلقه الرفيع.ذلك ما يصنعه الشغف بالبشر، فوجوده يعني السعي والدأب في سبيل تحقيق الأهداف، دون أن يعبأ الإنسان بالأثمان التي يدفعها في مقابل ذلك، وذلك ما حدث بالضبط لامرأة العزيز، حين شغفها حب نبي الله يوسف، لقد ساقها إلى أفعال لم تكن تتصور في لحظة أن تأتيها.
وكان سلوكها نحوه محل تعجب من جانب سيدات المدينة، من علية القوم من أمثالها، ما دعاها إلى جمعهن في "عزومة" يتعرفن فيها على ذلك الذي شغفها حباً.
لقد كانت السيدة الحكيمة تدافع عن نفسها، وقد اختارت أن تثبت للنسوة بالتجربة العملية معنى الشغف وأثره في النفس، وكيف يمكن أن يسوقها إلى أفعال غير متوقعة، وقد وصل الأمر بالنسوة إلى حد تقطيع أيديهن من فرط حالة الانبهار التي عاشوها، حين رأين ذلك الذي وصفنه بالأمس بـ"عبد امرأة العزيز".
سوف يظل الشغف سراً كبيراً من أسرار الحياة، إن لم يمحنه لك الواقع، فأوجده في نفسك، واصنعه من داخلك، حتى تستطيع المواصلة.