بقلم :د. محمود خليل
يستند المتكلمون فى موضوع «آخر الزمان» إلى مجموعة من كتب التراث التى تتحدث عن علامات القيامة، أو عن بعض الأحداث التى تزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبَّأ بوقوعها بعد رحيله، وأولها على سبيل المثال أحداث الفتنة الكبرى التى عصفت بالمسلمين منذ عصر عثمان رضى الله عنه، وما تلاها من تولِّى على بن أبى طالب -كرم الله وجهه- للخلافة ثم استشهاده، ثم تولى الحسن ووفاته بالسم، ثم تولى الحسين واستشهاده فى كربلاء، ثم ركوب بنى أمية للحكم منذ عصر معاوية وحتى زمن مروان بن محمد.
ولن نجد خيراً من القرآن ميزاناً لنزن به الأحاديث التى تتناول مسألة قيام النبى برسم خريطة الأحداث من بعده. وبداية لا بد أن نقرر أن القرآن الكريم نفى على لسان النبى أى معرفة له بالغيب، فقد جاء فى الكتاب: «قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلَا ضَراً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يزعم لنفسه معرفة الغيب، وتجربته فى تبليغ رسالة ربه تشهد على أنه لم يعتمد على أية خوارق تتجاوز قوانين الطبيعة، فجوهر المعجزة فى رسالته هو عقلانيتها، وتناغم قيمها مع المنطق والذوق الإنسانى السليم.
وقد اختص الخالق نفسه بعلم الغيب. يقول تعالى: «وعِنده مفاتحُ الغيبِ لا يعلَمُها إلا هو».. كما اختص نفسه بعلم الساعة فيقول: «إن اللهَ عنده علمُ الساعةِ ويُنزلُ الغيثَ ويعلمُ ما فى الأرحامِ وما تدرى نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدرى نفسٌ بأىِّ أرضٍ تموت إن الله عليمٌ خبير».
وترتيباً على ما سبق يصح أن نقول إن يوتيوبرز «آخر الزمان» يبنون كلامهم على فرضية خاطئة، أساسها أن النبى كان يعلم الغيب، وبالتالى توقع أحداث الفتنة من بعده، والأحداث الأخرى التى ستضرب الأجيال التالية من المسلمين، وظهور شخصيات مختلفة على مسرح الأحداث الإسلامية مثل الأصهب والسفيانى والصحابى وغير ذلك، وكذلك الأحداث التى ستسبق ظهور المهدى، ثم ظهور المهدى المنتظر.
هذا الكلام كله يتأسس على فرضية خاطئة لا تتسق مع ما نفاه النبى صلى الله عليه وسلم عن نفسه من معرفة بالغيب بآية كريمة فى القرآن، وما نفاه القرآن عن أى إنسان من قدرة على استشراف الغيب أو معرفة خطوط المستقبل، والأخطر من ذلك أن يكون لديه علم بموعد القيامة، لأن الله تعالى اختص ذاته الكريمة بذلك.
وحول الساعة وموعد القيامة وعلاماتها يقول الله تعالى: «فهل ينظرونَ إلا الساعةَ أن تأتيهم بغتةً فقد جاءَ أشراطُها فأنَّى لهم إذا جاءتهُم ذِكراهُم». والمعنى فى الآية واضح وهو أن الساعة تأتى فجأة، وأن المشركين قد جاءوا بأشراطها بمعصيتهم لله تعالى، ثم يتساءل النص: فماذا سيفعلون إذا وقعت فوق رؤوسهم وجاءتهم، ولحظتها لن يكون لهم من مهرب من عذاب الله.
فكأن معنى «الساعة» فى الآية هو الموت، وكأن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وبالتالى فالأشراط المقصودة فى الآية الكريمة تتمثل فى المقدمات التى تُفضى بالإنسان إلى المعصية وتدمير إنسانيته والإساءة إلى الحياة من حوله، والجور على غيره، بما يؤهله لعذاب الله حين يموت وتقوم قيامته.. والله تعالى أعلى وأعلم.