بقلم :د. محمود خليل
حكيت لك أن المتكلمين فى موضوع «آخر الزمان» يحتجّون بمجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة التى توقع فيها النبى، صلى الله عليه وسلم، الفتن التى ستضرب المجتمع المسلم بعد وفاته، لو تأملتها لبعض الوقت فستجد أن أغلبها ارتبط بالأيام الأخيرة من حياة النبى صلى الله عليه وسلم.
يحكى «ابن كثير» أن بداية توعُّك النبى ودخوله فى مرض الوفاة اقترنت بمشهد شديد الدلالة، اصطحب فيه صلى الله عليه وسلم خادمه فى زيارة إلى «البقيع»، وهى الأرض التى دُفن فيها صحابته الأوّلون الذين استشهدوا فى سبيل الله، وأخذ يناجيهم قائلاً: «ليهُن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجّاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى».
النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقرأ الغيب وهو يلقى بهذا الحديث، بل كان يقرأ إرهاصات مشهد بدأت ملامحه تتبلور على الأرض، فقد كان خبيراً بصحابته، وقديراً فى الحكم عليهم، يتمتع بكل الصفات الواجبة فى قائد قادر على قراءة الواقع ومد الخط على استقامته ليتوقع مآلات الأمور والأحداث.
كان دخول النبى فى مرحلة المرض الذى أدى إلى وفاته (استمر عشر ليال فى رواية وثلاث عشرة ليلة فى رواية أخرى وأربع عشرة ليلة فى رواية ثالثة) إيذاناً ببدء العديد من التجاذبات، وانخراط كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- فى ترتيبات تمهد لعملية انتقال السلطة من بعده والخروج من دولة «النبوة» إلى دولة «السياسة والحكم».
وقد بدأ هذا الأمر منذ اللحظات الأولى التى شرع المرض يتسلل فيها إلى جسد النبى الطاهر ليؤذن بالنهاية، فوقتها بدأ النبى، صلى الله عليه وسلم، يشعر بالإشكالية التى يمكن أن يقع فيها المسلمون من بعده بسبب التنازع على الحكم.
لم يكن النبى، صلى الله عليه وسلم، يتوقع الأحداث المختبئة فى رحم الغيب، بل كان يقرأ معطيات مشهد بدا صامتاً فى حلقاته الأولى، وكان من الطبيعى أن يعلو عجيجه وضجيجه بعد أن لم يعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين المسلمين، ومنهم من كان يعجّ ويضجّ بين ظهرانيه إلى حد نزول قرآن كريم ينهاهم عن ذلك.
لم يكن الأمر قراءة لغيب، بل استشرافاً لمستقبل، يتأسس على قراءة لمعطيات واقع، ووعى بنفوس البشر وشغفها بالسلطة والسلطان. صحابة النبى جميعهم كانوا يرفعون شعار «لسنا طلاب حكم»، لكن الصراع الذى اندلع على الحكم بعد دقائق من صعود روح النبى إلى بارئها يشهد على عكس ذلك، فأغلبهم كان يريد الحكم ويخطط له ويسعى إليه.
كل تفاعلات اجتماع السقيفة الذى وقعت أحداثه قبل دفن النبى تدلل على أن المنافسة على الحكم كانت على أشدها، والرغبة فى الاستحواذ بالسلطة بدت فى قمتها، والأدوات اللازمة لفرض الإرادة أُشهرت جميعها، بدءاً من التبريرات الدينية والأخلاقية والسياسية، وانتهاء بالسيوف التى خرجت من أغمادها. وبمرور الوقت وتنوع التجارب أصبح للسيف الكلمة الأولى فى الحكم.
فى هذا الإطار تستطيع أن تفهم الكثير من الأحاديث التى يشير إليها المتكلمون فى موضوع «آخر الزمان»، فالحديث عن قتال الزبير لعلى وهو له ظالم، وعن عمار بن ياسر الذى ستقتله الفئة الباغية، وعن الحسن بن على الذى سيُصلح به الله بين فئتين من المسلمين، وأحاديث كربلاء، وغيرها كلها تقع فى إطار وعى النبى بمعطيات الواقع وخبرته العميقة بنفوس مَن حوله بصورة تمكّنه من توقع أدائهم، تماماً مثلما يفعل المتخصصون فى علم المستقبليات فى عصرنا الراهن.