بقلم :د. محمود خليل
كانت حقبتا الخمسينات والستينات أكثر الحقب دفئاً على المستوى الأخلاقى فى حياة المصريين، ولم تكن الحقبتان كذلك لظرف أو أسباب اقترنت بهما، قدر ما تعلقت بالمنظومة الأخلاقية التى كانت تتم التربية عليها خلال الثلاثينات والأربعينات.
بإمكان الأفلام السينمائية التى أُنتجت فى الثلاثينات والأربعينات وكان حاضراً فيها بُعد أخلاقى أن تمنحك بعض المؤشرات عن المنظومة الأخلاقية التى حرص المنتج السينمائى على التأكيد عليها وتكريسها، بدءاً من فيلم «زينب» لمحمد حسين هيكل الذى يؤكد على حق الفقير فى الحياة، وفيلم «الزواج» الذى يحارب الفسق والاستهتار، و«سلامة فى خير» الذى يحتفى بقيمة حفظ الأمانة، و«العزيمة» الذى يدافع عن الحق فى العمل، و«لو كنت غنى» الذى يرصد أن أى ضعيف هو مشروع متجبر إذا أتيحت له الفرصة، و«ابن الحداد» الذى يحتفى بقيمة العمل والعمال، و«أحب البلدى» الذى يحتفى بالحياة والقيم الشعبية، و«السوق السوداء» الذى يعالج جشع التجار الذين يتحولون لمصاصى دماء خلال الحروب والأزمات، و«سفير جهنم» الذى يعالج استسلام الإنسان للشيطان.
بالطبع كانت هناك أفلام أخرى استهلاكية أو كوميدية إلى جوار هذه المجموعة من الأفلام الهادفة إلى بناء منظومة أخلاقية معينة لدى الجمهور، لكن الشاهد أن هذا كان موجوداً إلى جوار ذاك.
الغرس الثقافى والتربوى الذى قامت به المؤسسات المسئولة عن تشكيل المنظومة الأخلاقية للجمهور خلال حقبتى الثلاثينات والأربعينات ظهر نتاجه فى الخمسينات والستينات. هاتان الحقبتان اللتان اشتملتا على مجموعة من المفكرين والأدباء والمبدعين والفنانين والموسيقيين والكتاب لم تتوافر لغيرهما من الحقب.
لذا فقد جاء المنتج الثقافى والفنى والتعليمى -فى أغلبه- داعماً لقيم الحب، واحترام الاجتهاد، وتثمين العلم وحمَلته، والعطف على الضعيف، والتعايش بين فئات المجتمع المختلفة.
خلال حقبتى الخمسينات والستينات لم تكن مصر تعانى من الزحام الذى تعانيه حالياً، فكانت الأعصاب مسترخية والنفوس هادئة بدرجة أكبر، عدم وجود الزحام زاد أيضاً من الفرص المتاحة أمام الأفراد مقارنة بالأوضاع داخل «مصر الطوابير».
الأسرة خلال هذه المرحلة كانت محكومة بمجموعة من القواعد الحاسمة، فدور الأب محدد المواصفات، وأغلب الآباء يتحرون الالتزام بها، وكذا دور الأم، وأدوار الأبناء. وكانت أصول التربية تفرض على الجميع احترام الكبير، وترشد الكبير إلى العطف على الصغير والضعيف واحتوائه وعدم النيل منه.
معدلات الدخل أيضاً خلال حقبتى الخمسينات والستينات كانت معقولة، تستطيع أن تستشف ذلك من خلال تأمل بعض الأفلام السينمائية التى كانت تقدم أفراد الطبقة الوسطى -بمن فيهم الموظفون- يعيشون حياة مستقرة، كل بيت فيه خادمة، والحياة تسير دون مشكلات حقيقية، بإمكانك مثلاً أن تتأمل فيلم «فى بيتنا رجل»، وفيلم «معلش يا زهر»، وغيرهما.
إن فيلماً واحداً من أفلام الخمسينات استطاع أن يلخص لك الحالة الأخلاقية للمجتمع المصرى خلال هذه الحقبة، وهو فيلم «حياة أو موت» الذى يحكى لك كيف تآزرت أطياف مختلفة من المجتمع مع طفلة صغيرة ذهبت لتحضر دواء لأبيها المريض، فأخطأ الصيدلى فى تركيبه، وباتت حياة من يتناوله مهددة.
كل ما كان يحيط بالإنسان المصرى خلال هاتين الحقبتين دعاه إلى الهدوء والاسترخاء، وحثه على استيعاب غيره واحتوائه والطبطبة عليه ومساعدته ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
فماذا حدث للناس بعد ذلك؟