بقلم: د. محمود خليل
تردد كثيراً وهو يضع يده على الجرس، لكنه وضعها فى النهاية. دخل «عبدالعظيم» يحمل فوق يديه ابنه «مالك»، استقبلته عينا أبيه وأعين ولديه بدهشة مستطيرة. سأله «مازن»: «ما هذا الذى تحمله؟» لم يجب.. الوحيدة التى لم تتعامل مع الأمر بدهشة هى «ندى» فبحس الأنثى توقعت، وبحس الأنثى كانت تعرف أن «عبدالعظيم» يحمل ثمرة الرحلة المقيتة التى خاضها مع نجلاء الأحمدى.. حملته عنه كما تعودت أن تحمل عنه كل ما يريد التخلص منه، وهدهدته على صدرها، ثم فاجأت مازن وخالد الصغير بقولها: «هذا أخوكم الثالث».
عاد «خالد» إلى الكتاب الذى يقرأ فيه قبل أن يطرق «عبدالعظيم» رأسه بهذا المشهد.. أخذ يتمتم بالقول: «ليت السماء تقع على الأرض».. هكذا صرخت السيدة زينب رضى الله عنها وهى ترى مصرع الحسين. تمنت لو قامت القيامة، لو زلزلت الأرض زلزالها، وانطبقت السماء على الأرض فمحت ما عليها. إنها الرغبة فى التدمير التى تعترى النفس البشرية وهى تعيش أعمق لحظات ضعفها، وأشد حالات يأسها وعجزها عن حماية من تحب. لم تقع السماء على الأرض وقتها. بل ظلت فى مكانها، لكن الصرخة ظلت باقية قادرة على العبور من جيل إلى جيل، وبمرور الزمن تلقفها الشيعة، فخاضوا حرباً شرسة ضد مسلمين أمثالهم من أهل السنة، وانخرط السنة فى حروب مريرة ضد الشيعة وفكر الشيعة. وهى حروب لم تزل باقية حتى اليوم تدمر فى طريقها الإنسان والمكان، وهى فى كل الأحوال تترجم صرخة السيدة زينب فى كربلاء وهى تقول «ليت السماء تقع على الأرض».
- عبدالعظيم: محتاج لك يا والدى؟
- خالد (وهو يغلق الكتاب): أنت بحاجة إلى أن تخلو إلى نفسك.. أن تمشى وحدك.
- عبدالعظيم: مش فاهم.
- خالد: اسمع يا عبدالعظيم.. كل ما أردته أتيته.. والآن عليك أن تكون رجلاً وتتحمل مسئولية ما فعلت.. واحمد ربك على أنه رزقك بمثل هذه المرأة التى تجمع وراءك وتحاول جبر أخطائك.
- عبدالعظيم: افهمنى يا والدى.. أنا لم أفعل شيئاً يغضب الله.. حاولت بس آخد حاجات حسيت إنها من حقى.. أنا راجل اجتهدت فى العلم وحصلت على أعلى الشهادات.. واشتغلت وتعبت وشقيت فى شركات الأدوية.. بتلومنى على إنى حاولت آخد حقى من الدنيا.
- خالد: الملك لله وإلى الله.. من خلقه هو الذى يملكه وهو الذى يوزع الأنصبة فيه بحكمته.. ومن يعاند أقداره ينتهى إلى ما انتهيت إليه.. لقد قلت لك احمد ربك على زوجتك التى تجمع وراءك وتجبر أخطاءك.. فرددت علىَّ بـ«افهمنى يا والدى».
- عبدالعظيم: الحمد لله.. بس......
- خالد (مقاطعاً): لا تكمل.. احمد ربك وكفى.. وتعلم الدرس وامش وحدك.. امش وحدك يا ولدى.. ولو مشوا معك حلق بروحك بعيداً عنهم.. حلق بعيداً.. اذهب بعقلك وفكرك إلى هناك.. إلى.....
أصيب «خالد» فجأة بإغماءة، أخذ «عبدالعظيم» يهز فيه، أحضرت «ندى» الأدوية بسرعة، حاولت إعطاءه الدواء لم يستجب، أخذ عبدالعظيم يتحسس يده فى محاولة لاستكشاف النبض، تركه ونزل لإحضار الطبيب.. ارتج البيت كله.. جاء الطبيب، وكشف عليه، اجتهد فى إفاقته، حتى تمكن من فتح عينيه، طلب منهم أن يضعوه على الكنبة، وطلب منهم إغلاق النور وتركه حتى ينام، امتثلوا لأمره، ودخلوا إلى غرفهم، كانت «ندى» عاجزة عن كبح دموعها على الشيخ الذى أحبته كما تحب والدها، أما «عبدالعظيم» فكان فى حالة ذهول كامل، وهى الحالة التى سقط فيها خالد الصغير الذى لم يكن فهم معانى ودلالات ما يحدث، أما «مازن» فقد أصر على المبيت إلى جوار جده حتى يلبى طلباته إذا أراد شيئاً خلال الليل، واستأذن الشيخ الكبير فى أن يبيت على كرسيه الهزاز إلى جوار الشرفة، فابتسم الجد موافقاً.. وهدأ البيت فجأة.