بقلم: د. محمود خليل
احتجاج الرجل المؤمن من آل فرعون بموقف قومه من نبى الله يوسف من الأمور التى تستحق التذكير بها.
فى هذا السياق سنجد أنه خلافاً لطريقة حكى قصص كثير من أنبياء الله تعالى داخل القرآن الكريم احتضنت قصة نبى الله يوسف عليه السلام سورة واحدة، هى سورة «يوسف». ورد اسم «يوسف» خارج سياق هذه السورة مرتين، سنتوقف أمام إحداهما، وهى تلك التى وردت فى سورة «غافر» وذلك فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ».
ارتبط السياق العام للآية الكريمة بسلسلة النصائح الذهبية التى وجهها «مؤمن آل فرعون» إلى قومه حين اشتد الخلاف بين موسى وفرعون. وتؤشر الآيات الكريمة التى احتضنت هذا المشهد إلى أن «مؤمن آل فرعون» كان يعمل فى البلاط الفرعونى، وكان مؤمناً بموسى، لكنه آثر أن يكتم إيمانه، ولم يمنعه الكتمان من أن يتوجه إلى قومه بالنصح.
المعنى فى الآية الكريمة واضح، فقد أراد الرجل أن ينبه آل فرعون إلى موقفهم السابق من نبى الله يوسف حين جاءهم بالبينات (الأدلة والحجج على وحدانية الله) فشككوا فى أمره واتهموه وأنكروا عليه ما يقول. وظل موقفهم منه طيلة حياته على هذا النحو، ولما مات عليه السلام انتقل موقفهم من النقيض إلى النقيض فعظّموه وبجّلوه واعترفوا بنبوته وتمسكوا بها إلى حد أن قالوا «لن يبعث الله من بعده رسولاً».
لقد أراد «مؤمن آل فرعون» أن ينبههم إلى قياس موقفهم الحالى من نبى الله موسى بموقفهم السابق من يوسف عليه السلام، ولفت نظرهم إلى أنهم يتعاملون مع موسى بذات الطريقة التى تعاملوا بها مع يوسف من قبل، وكأن لسان حاله يسأل: هل تنتظرون أن يموت موسى حتى تعترفوا برسالته ونبوته؟ وتختتم الآية الكريمة بفكرة أن التشكك فى غير محله يُفضى إلى الضلال. الشك مطلوب من أجل الوصول إلى قناعة متماسكة، لكن الإفراط فيه ضلال.
مؤكد أن الفراعنة بنوا حضارة ما زال العالم متحيراً فى كشف خباياها وأسرارها حتى الآن. ويخطئ من يظن أن القرآن الكريم تبنى موقفاً سلبياً منهم. القرآن توقف أمام نماذج محددة من التاريخ الفرعونى المديد عبّرت عن حالات شاذة فى التفكير والنظر إلى الأمور، مثلما كان الحال بالنسبة لفرعون موسى، لكن القرآن الكريم تناول بتفصيل أكبر النموذج المضىء الذى قدمه «مؤمن آل فرعون» (وذلك فى سورة غافر). وأكد على انتمائه إلى أرضه وعصره بل ووجوده ضمن أعضاء البلاط الفرعونى، ووصف الكيفية التى توقف بها أمام الخلل الذى أصاب تفكير جماعة من قومه، يدمنون التشكيك فى الشخص وهو على قيد الحياة، وعندما يرحل إلى خالقه يمطرونه بالمديح الذى يبلغ حد التقديس.
أمثال الرجل المؤمن من آل فرعون كانوا أساس الحضارة التى حيرت العالم، فى حين بدا المشككون أكثر شغفاً بالضلال، وأميل إلى مجاراة فرعون فى تفكيره، فكانت النهاية الغرق معه.