بقلم: د. محمود خليل
تعود المصريون زيارة القبور ثانى أيام عيد الأضحى، خلافاً لما يفعلون فى عيد الفطر، حيث يقومون بهذا الطقس أول يوم منه. السبب فى ذلك معلوم بالضرورة، ويرتبط بانصراف الناس أول أيام الأضحى إلى الذبح والطبخ، فتأتى الفرصة لزيارة الأحبة الذين رحلوا ثانى يوم.
زيارة القبور من الأمور المحببة لأخذ العظة والعبرة وتذكر المصير المحتوم الذى سينتهى إليه الإنسان، فتهون فى نظره خطوب الدنيا مهما عظمت، وتصغر مشكلاتها مهما كبرت، وتحقر متعها ومعطياتها مهما تعاظمت: «يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ». الزوال والانتهاء هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر، وهى عدالة مطلقة لفظاً وموضوعاً.
خلافاً للعديد من الشعوب الإسلامية ترتبط مسألة زيارة القبور لدى المصريين بالأعياد، خصوصاً حين يتقادم العهد بالراحل أو الراحلة. فهناك «طلعة رجب» و«طلعة عيد الفطر» و«طلعة عيد الأضحى»، وتتعجب وأنت تجد شعبنا الطيب يحول هذا الطقس إلى جزء من تراث البهجة.
زمان كانت زيارة المقابر فى الأعياد فسحة يهواها الصغار، وهم يمسكون بأيدى جداتهم وأمهاتهم، وهناك تختلط ضحكاتهم بدموع الجدات والأمهات وهن يتذكرن راحليهم. المرأة أيضاً كان يسمح لها -استثناءً- بالخروج إلى هذا المشوار، فى حين كانت تُمنع من غيره، وبالتالى كانت الفتيات والسيدات يجدن فرصة جيدة فيها للخروج من الحبسة داخل البيت، هذا الأمر ارتبط بأزمنة سابقة بالطبع، عبرناها منذ سنين.
بعض السيدات فى الماضى كن يبتن فى المقابر ليلة العيد، أو فى اليوم الأول من عيد الأضحى، ويستيقظن منذ الفجر لإعداد الصدقات التى يوزعنها على أرواح الراحلين، وكن يتبعن فى ذلك نهجاً عجيباً، إذ يملن إلى توزيع أنواع من المأكولات أو الفاكهة كان يحبها المرحوم أو المرحومة، ويرددن أنها ستصل إليهم، أو ثوابها بعبارة أدق.
مشاهد زيارة القبور فى الأعياد سمة مميزة لعلاقة المصريين براحليهم، وهى سمة لها ما يبررها، إذا أخذنا فى الاعتبار أن هؤلاء الراحلين كانوا يشاركونهم بالأمس طقوس البهجة بالأعياد وإحياء المواسم. وهذه السمة سائدة لدى الشعوب القديمة عموماً، مثل شعوب أمريكا اللاتينية، ولو أنك قرأت رائعة جارثيا ماركيز «مائة عام من العزلة»، فستجد فيها مشهداً تظهر فيه فتاة تحمل عظام أجدادها وآبائها فى كيس، حين انتقلت من قريتها القديمة لتعيش فى قرية «ماكوندو»، انطلاقاً من أن وطن الإنسان يمثل الأرض التى ترقد فيها عظام راحليه.. هكذا ببساطة.
الدنيا اختلفت هذه الأيام، وباتت عادة زيارة المقابر شعبية إلى حد كبير، ولم يعد أفراد الطبقة الوسطى الذين تربى أغلبهم على هذه العادات يميلون إليها، والسر فى ذلك تجده فى مواقع التواصل الاجتماعى التى جعلت كل شىء افتراضياً، فيكفى جداً أن يكتب أحدهم أو إحداهن «بوست» على الفيس بوك يترحم فيه على والديه أو من رحل من أحبابه، ويتلقى اللايكات والتعليقات والتفاعلات.
الكثير من العادات المصرية القديمة صارت افتراضية وأظن أنها فقدت بذلك الكثير من زخمها.. فليرحم الله الجميع.