بقلم - محمود خليل
لا يوجد في آيات القرآن الكريم إشارة مباشرة إلى تلك الحكاية التي ذكرها المفسرون في علاقة موسى بفرعون مصر، تلك التي تقول أن العرافين أخبروا فرعون بأنه سيولد في بني إسرائيل غلام تكون نهاية ملكك على يديه.
النص القرآني صريح في أنه يحكي لنا الرواية الحقيقية لما حدث: "نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون".
الإشارة إلى موضوع الغلام جاءت بشكل غير مباشر، في مقابل التركيز بشكل كامل على "أداء فرعون" عند شرح الأسباب التي أدت إلى تهاويه.مفتاح الحقيقة فيما حدث بين موسى وفرعون ارتبط بعلاقة ملتبسة نشأت بين طرفين الأول: هم المسيطرون وعلى رأسهم فرعون، والثاني هم المستضعفون الذين كان من بينهم نبي الله موسى.
أداء فرعون -زعيم المسيطرين- كان يبشر بالنهاية، ويدلل على أنه يقبع على رأس تركيبة حكم فقدت صلاحيتها، وتجاوزها الزمن. يقول الله تعالى: "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين".
فرعون علا في الأرض.. ومعنى العلو أن ينظر الإنسان حوله فلا يبصر إلا نفسه. إنه ببساطة يعتبر نفسه في منطقة أخرى غير تلك التي يقبع فيها المجموع، منطقة يحلق فيها إلى أعلى فوق رؤوس الجميع، ولا خلاف على أن تمكن هذا الإحساس من نفس فرد لابد وأن يؤثر على أدائه مع المجموع.. فماذا تتوقع من سيد يشعر بالعلو عندما يتعامل مع من هو دونه؟ الأداء القائم على الاستكبار والإحساس بامتلاك مصائر البشر يؤدي إلى التعامل غير المنضبط معهم، لأنه يكرس داخل صاحبه الإحساس الكبير بفائض القوة، ويدفعه إلى النظر للآخرين كمجموعة من المستضعفين.
لم يكتف فرعون بناء علاقته بالمجموع على قاعدة "العلو والاستكبار"، بل اتجه إلى فكرة التمييز في التعامل معهم، وفرح بفكرة تقسيمهم إلى فئات (شيع)، يكون لبعضها الحظوة والقيمة، ويكون للأخرى الحرمان والقهر والمحاصرة، والمقصود في الآية القرآنية الكريمة "بنو إسرائيل" الذين وجه فرعون إليهم آلة بطشه، فكان يتخلص من أبنائهم ، ويترك الأمهات أحياء، يعانين قسوة فقد فلذات أكبادهم.. وهنا تجد الإشارة غير المباشرة إلى الفرضية التي بنى عليها المفسرون ما ردده حول نبوءة العرافين بميلاد غلام من بني إسرائيل ينتهي على يديه ملك فرعون.
وقد كان فرعون يعتمد على السحرة، وربما اعتمد أيضاً على المنجمين، ويضيف هذا التوجه بعداً جديداً إلى مسألة الركاكة في الأداء، بسبب بعده عن العقلانية، واستغراقه في الأحاديث الفارغة.إنه الأداء الذي تلخصه كلمة "مُفسد"، والله تعالى وصف فرعون في ختام الآية: "إنه كان من المفسدين".
والأداء المفسد لا يستند إلى معايير الحق والعدل والإنسانية، بل إلى الغرور والكبر والعلو والتمييز ما بين البشر، وهو لا يعبر عن مجرد تفكير فاسد، أو إرادة فاسدة لصاحبه، يل يؤدي إلى إفساد الواقع ككل، وإفساد البشر الذين يسعون فوق مسرحه، فكلما اتسع خلل الأداء داخل مجتمع زادت مساحة الفساد بين أفراده.