أوضاع التعليم فى مصر تعبر عن أزمة قديمة متجددة.
عرفت مصر المدارس خلال فترة حكم محمد على صاحب تجربة بناء الدولة المصرية الحديثة، وبعده أخذ منحنى التعليم فى التأرجح ما بين الهبوط فى عصر عباس الأول، أشهر الحكام المنغلقين فى تاريخ مصر، والانحطاط الكامل فى عصر سعيد، أكثر حكامها إيماناً بأن قيادة شعب جاهل أسلس من قيادة شعب متعلم، والصعود فى عصر إسماعيل، أكثر حكامها شغفاً بالتحديث.
كانت المجانية أساس التعليم فى المدارس فى ذلك الوقت، ولم يكن دور المدرسة يقف عند توفير المدرسين ومستلزمات التعليم للتلميذ الذى يريد أن يتعلم، بل كانت المدرسة تطعمه وتكسوه أيضاً.
كانت الحكمة من توفير التعليم بالمجان استخدام المدارس كمفارخ لتعويد النشء على الحياة النظامية كوسيلة وحيدة لإعداد الأجيال الجديدة على نمط حديث ومختلف عن الحياة الفوضوية التى ورثها الآباء عن عصر الاضمحلال المملوكى والعثمانى.
كما أن إنفاق الدولة على التعليم كان له عوائد كبيرة على تجربة التحديث التى تبناها محمد على، فعلى أكتاف المتعلمين فى مدارس الوالى قامت نظم الإدارة الحديثة فى البلاد، وأنشئت الدواوين التى تحولت فيما بعد إلى وزارات، أخرجت مصر من وخم العصور الوسطى إلى نظم العصر الحديث.
كانت كل خطوة يخطوها محمد على جزءاً من رؤية كبيرة تبناها الرجل فى التحديث، وهى ذات الرؤية التى عمل عليها الخديو إسماعيل عندما حكم مصر وتبنى نظرية أن يصبح هذا البلد قطعة من أوروبا.
التعليم بالنسبة لأبرز الحكام فى عصر أفندينا مثّل ساحة استثمار من جانب الدولة، فهى تستثمر وتتكلف عبء تعليم أبنائها، لأن عوائد تعليمهم تصب عندها، حين يدخلون كتروس فى ماكينة التحديث.
حتى ذلك الوقت كانت المدارس فى مصر تخرج متعلمين حقيقيين، وكان خريجو المدارس ينخرطون بسرعة فى دولاب الدولة ليسد حاجتها إلى الموظفين والتكنوقراط.
ورغم ما قدمه إسماعيل للتعليم وهو كثير، فإن العديد من الظواهر السلبية التى ضربت ولا تزال تضرب التعليم حتى اللحظة ارتبطت بالفترة الأخيرة من حكمه، وهى الفترة التى شهدت الأزمة المالية العاتية التى عصفت بنظامه وأدت فى النهاية إلى الإطاحة به من الحكم.
خصص إسماعيل ميزانية للتعليم، بلغ مجموعها 67 ألف جنيه مصرى، وهو رقم كبير فى عصره، لكنه لم يكن كافياً لرعاية تجربة تعليمية متوسعة وصلت إلى تعليم البنات وإنشاء المدارس المتخصصة فى ذلك.
اقترح على مبارك «أبو التعليم فى مصر» فى ذلك الوقت إبطال مبدأ المجانية البحتة، وتكليف الأهالى بالإنفاق على تعليم أولادهم، وبادر بالفعل إلى إنشاء مدرستين بمصاريف شهرية.
ويبدو أن على مبارك نظر إلى حال الأسر التى تعلّم أبناؤها وكيف تحسنت أحوالها، فتحول عن وجهة النظر التى ترى التعليم استثماراً لا بد أن تقوم به الدولة لأن عوائده تصب عندها، إلى النظر إليه كاستثمار مشترك يستفيد منه الأسرة والدولة، وبالتالى لا بد أن يتشاركا فى تحمل عبء تكلفته.
فى ذلك التوقيت ظهرت المدارس بمصروفات (الخاصة فيما بعد) لأول مرة فى تاريخ التجربة التعليمية فى مصر، وذلك فى كنف الحكومة، وكان المتفوقون يستثنون من دفع المصاريف اللازمة لها.
تعليم أفندينا كان يتحرك برؤية، يستوى فى ذلك المجانى مع الخاص، لذا فقد كان لغرسه نتاج كبير الأثر فى حياة المصريين.