بقلم - د. محمود خليل
«التنوير» مصطلح يحمل معانى عديدة من بينها: «العصرنة»، بما تعنيه من وعى بمعطيات الزمان والمكان والأداء فى ضوئها، و«اتساع الأفق» لقبول الغير والاستماع إلى الأفكار ووجهات النظر المغايرة، و«العقلنة»، بما تعنيه من احتكام للعقل ولنظريات العلم عند النظر فى قضايا الواقع أو أحداث التاريخ، بما يؤدى إلى فهم أرقى للواقع والتاريخ.
حركة التنوير فى أوروبا اعتنت بتحرير العقل من أى سلطة كهنوتية، وأكدت على مجموعة من القيم الأساسية التى استندت إليها النهضة الأوروبية، مثل الحرية والعدالة والتسامح والمساواة، وأتاحت الفرصة لتفجير طاقات الفرد بحيث يصبح عضواً مفيداً للمجموع. وكانت النتيجة نهضة علمية وفلسفية ضخمة، وثورة صناعية أسهم فيها كل عناصر المجتمع الأوروبى، وتحولات تكنولوجية أثرت فى حياة البشر العائشين فوق ظهر الكوكب.
لم يكن هم أو مبلغ علم رواد النهضة الأوروبية مثلاً تحرير الجسد من الملابس، بل اعتبروا الزى مسألة حرية لا يصح أن يتدخل فيها أحد.. وكل إنسان حر فيما يفعله، بشرط ألا يفرض طقوسه على الآخرين.
تحرير المرأة فى حركة التنوير الغربى كان جزءاً من تحرير الإنسان والدفاع عن حقوقه على وجه العموم، ولم يكن انحيازاً أو محاولة لتمكين أو تركيب «الست على الراجل»، بل كان تأكيداً على المساواة بين الجنسين مع احترام فكرة التنوع.
إنكار الكهنوت فى الفكر التنويرى لم يعن بحال تشويه المؤسسة الدينية، بل مثّل توجهاً عاماً يرفض كل أشكال الكهنوت الدينى أو السياسى أو الثقافى، بما فى ذلك كهنوت التنويريين.
من حق كل إنسان أن يروج لما يريد من أفكار، بشرط أن يتسع صدره لأفكار ووجهات نظر الغير، فذلك هو التنوير بمعناه الحقيقى، بعبارة أخرى ليس من المنطقى أن يسفه من يطلقون على أنفسهم وصف التنويريين وجهة النظر المغايرة التى تدافع عن فكرة «الاحتشام»، أو تحترم قيم الأسرة المصرية، أو تثمّن التقاليد والأصول الاجتماعية العامة.
داخل أشد المجتمعات الغربية إيماناً بالليبرالية وحرية الفكر هناك مفهوم يسمى «المسئولية الاجتماعية» يرتكز على حقيقة أنه إذا كان من حق الفرد أن يعبر عن رأيه وفكره وقيمه بحرية كاملة، فعليه أن يتحرى وهو يفعل ذلك حماية قيم وتقاليد المجتمع، والمجتمعات تختلف فى منظوماتها القيمية، ومن حق كل مجتمع أن يحمى هويته، ويدافع عن خصوصيته، وليس فى ذلك أى شكل من أشكال نفى الآخر أو استبعاده.
الموضوع الأهم فى قضية التنوير هو «العقل». جهود التنوير الحقيقية تركز على نشر قيم العقلانية، ودعم الفكر الحر، والأخطر والأهم دعم البحث العلمى، والاهتمام بالتطوير التكنولوجى، انطلاقاً من أن أدوات التكنولوجيا الجديدة هى وحدها القادرة على تطوير فكر ورؤية المجتمع، وإتاحة المساحة أمام كل العقول لكى تنتقد بحرية نتاج التكنولوجيا إذا أضر بقيم وتقاليد المجتمع. زمان كتب نزار قبانى يصف وضع العرب بعد 1967 يقول: «خلاصة القضية توجز فى عبارة.. لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية».
ليس من صالح هذا المجتمع أن تركز جهود التنوير على القشرة وتهمل الروح.