بقلم - د. محمود خليل
النموذج "القاروني" هو ببساطة النموذج الذي يتمثل المعادلة التي عاش بها "قارون" كبير أثرياء قوم موسى، المعادلة التي بينتها الآية الكريمة التي تقول: "إنما أوتيته على علم عندي".
إنها المقولة التي واجه قارون قومه بها، حين نصحوه بعدم الاغترار بما يملكه من أموال وكنوز، وأن يحسن إدارتها ولا يجعلها وسيلة لإفساد الحياة: "إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين".
رد قارون على من بذلوا له النصيحة بأن ثرواته جاءت نتيجة جهده وتعبه وعرقه وذكائه ومهارته، وما يختزنه عقله من علم في إدارة المال وتنميته. إنها اللعبة الأزلية الأبدية التي ينظر فيها الإنسان فلا يرى إلا نفسه.
النموذج القاروني يمكن أن تجده في عالم المال والأعمال، وفي عالم السياسة، وفي عالم العلم والتعليم، وفي عالم الثقافة والإعلام، وحتى في عالم الكرة، قد تجد هذا النموذج، الذي يخرج على الناس -وكأنه أعلم أهل الأرض في اللعبة- ليطلق صاروخاً كلامياً يلخص فيه رؤيته للواقع الذي لا يرى فيه موهوباً سواه، وأن غيره مجموعة من المفلسين أو معدومي الموهبة.
في كل المجالات تجد النموذج القاروني، وقد اخترع المصريون كلمة "قرننة" وهي مشتقة من الفعل "تقرنن"، وكأنهم يريدون الدلالة بها على بعض الشخوص الذين يميلون إلى استدعاء نموذج "قارون" وهم يؤدون في الحياة، فيتعاملون مع غيرهم بتعالي، وينظرون إليهم نظرة دونية، ويقللون باستمرار من قدرات غيرهم.
كان يقال على سبيل المثال "فلان بتقرنن على الناس"، أي يعاملهم من أعلى، ويخاطبهم من طرف لسانه، ويسلم عليهم بأطراف أصابعه، وكأن يقال: "فلان يحب القرننة" أي أن يشعر أنه فوق غيره، وأن موضعه فوق أكتاف الجميع، حيث يجلس ويدلدل رجليه أو يمدها في مواجهة الجميع.
كأن المصريين منذ زمان بعيد يستوعبون المعادلة القارونية والتأثيرات السلبية لها على حياة المجتمعات، ويبدون متأثرين جيلاً بعد جيل بقصة قارون التي وقعت قبل آلاف السنين، وتعاصرت مع نبي الله موسى، وشرحت جانباً من جوانب حياة هذا العصر.
فالشخص "القَرَن" يمثل من وجهة نظر الأجيال المتعاقبة من أبناء هذا الشعب نموذجاً ممقوتاً، لا يضيف للحياة شيئاً، بل يساهم في إرباكها وتسميمها، لأن أدائه يستند دائماً إلى فكرة تسفيه الواقع من حوله، واتهام كل الأشخاص الذين يدورون في المجال الذي يعمل فيه بالجهل وانعدام القدرات وضحالة الموهبة وغير ذلك، وبدلاً من أن يمنحهم الثقة بأنفسهم ويجتهد في اكتشاف قدراتهم وتنميتها، يشوطهم في ضربة كلامية واحدة.
نموذج "عم القَرَن" يظن أنه "بابا المجال" رغم أن التجربة تقول أنه لا يفلح في أغلب الأحوال، وقد يخفق إخفاقات غير مسبوقة حين يتولى مهمة معينة، ويتحول إلى آلة عاتية للخراب والتخريب.