بقلم - د. محمود خليل
حين تتشابه مسارات ومحطات الرحلة يتشابه البشر.. فى الماضى كانت مسارات الرحلة ومحطاتها بين أغلب من يعيشون داخل «الكوميونتى السكنى» متقاربة، على الأقل بين أغلبهم، لكن المسألة اختلفت اليوم، فطريق الوصول إلى «ثمن السكن» فى مكان معين قد يكون طويلاً وشاقاً ومتعباً بالنسبة للبعض، وقد يكون سهلاً يسيراً معبداً بالنسبة لآخرين، قد يصل البعض إليه بعد كفاح يتواصل 15 أو 20 سنة، وقد يصل آخرون فى غمضة عين وكأنهم يملكون الفانوس السحرى، ولست أقصد بالكوميونتى هنا تلك التجمعات التى تضم المخمليين من البشر وفقط، بل أيضاً التجمعات التى تضم المتوسطين والمحدودين، و«كل يرغوت على قد دمه».
فى الماضى كان العائشون داخل الكوميونتى متناغمين فيما يبنهم إلى حد كبير، على عكس الحال الآن. فى التسعينات أرسل أحدهم رسالة إلى بريد إحدى الصحف لفّت حكايتها بر مصر من أوله إلى آخره.
حكى صاحب الرسالة، وكان من فئة المتوسطين، واقعة شاهد فيها شاباً يقف أمام سيارة مرسيدس صدمتها سيارة 128، وإلى جوار الشاب وقف أبوه يؤنبه على ما حاق بالسيارة المرسيدس من إصابات ويقول له: «انت ما ينفعش تركب سيارة مرسيدس زى ولاد الناس.. حلالك سيارة 128 زى ولاد الإيه».. فحوى هذه الرسالة كان موضوع ثرثرة وجدل فى قعدات المصريين، وكان الجميع يتندرون على تعليق الأب على سلوك ابنه الذى لا يليق بكميونتى المخمليين، وأن العقاب الذى يستحقه هو النفى لمجتمع المتوسطين، أو بعبارة أخرى النفى من نادى أصحاب المرسيدس إلى نادى الـ128.
كان الناس يستغربون من هذا التحول بالطبع، ولم يكن أى منهم يدرى أنه سيأتى حين من الدهر يظهر فيه نوادٍ أخرى تضم أصحاب الذهبيات والطائرات وغير ذلك. الأب فى الواقعة التى أحكى لك عنها كان جزءاً من كوميونتى متناغم على ثقافة معينة تدعمها أوضاع اقتصادية واجتماعية محددة، فكل أعضائه يقيمون اعتباراً للمال كأداة قوة، وللمقتنيات كمعبرات عن القدرة المالية، كما تتشابه رحلة أغلبهم فيما يتعلق بجمع المال وأوجه انفاقه.
الآن اختلفت الكثير من الأوضاع ولم يعد الكوميونتى أو التجمع السكنى تسوده مساحة التناغم التى كانت موجودة فى الماضى، بل ظهرت بداخله العديد من التشوهات الناتجة عن اختلاف مسارات ومحطات رحلة امتلاك ثمن الوحدة السكنية، ما بين «الكفاحتجية» والمتأرجزين أصحاب المكاسب السحرية، وقد حكيت لك بالأمس الرحلة التى خاضها عبدالحليم حافظ حتى انتقل للعيش فى شقة بالزمالك (حوالى 15 سنة)، وهى رحلة يختصرها البعض اليوم فى 15 دقيقة يتأرجز فيها بالسخف، ولست ألومهم على ذلك بالطبع، لأنهم يعملون فى ظل معادلة يحكمها الجمهور الذى يقبل على منتجهم.
فاللوم يقع على الجمهور حين يثرى أصحاب المحتوى المتأرجز وليس على منتجه.
أخشى أن أقول إن حالات التشوه التى بدأت تضرب أغلب التجمعات البشرية: السكنية والمهنية والفكرية وخلافه باتت تهدد واقعنا بمستقبل لا يعلمه إلا الله.