بقلم - محمود خليل
عاش نبى الله «لوط» رحلته مع قومه، ولم يعثر بينهم على الرجل الرشيد الذى ما فتئ يبحث عنه. ظهور نموذج هذا الرجل جاء فى قصة موسى، عليه السلام، وذلك فى المشهد الجليل الذى رسمته سورة غافر للرجل المؤمن من آل فرعون، الذى انبرى فجأة من داخل البلاط الحاكم، بخطابه المتفرّد الرافض للخطاب المتعالى الذى تبنّاه الفرعون، وادّعى فيه أنه يملك بوصلة الرشد لمن حوله: «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ»، فى حين كان يضل فيه المجموع.
فى هذا السياق طرح الرجل المؤمن نفسه كبديل راشد يحاول إنقاذ قومه قبل الوقوع فى مستنقع الهلاك: «وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ یَـقَومِ اتَّبِعُونِ أَهدِكُم سَبِیلَ الرَّشَادِ».نحن إذن بصدد رجل راشد رشيد، ظهر داخل البلاط الفرعونى الطاغى، ومثّل نموذجاً إصلاحياً فريداً من نوعه. كان الرجل مؤمناً، لكنه يكتم إيمانه، وكان طبيعياً أن يفعل.
إن نبى الله موسى المكفول بعناية الخالق العظيم حين أمره ربه بالذهاب إلى فرعون مع شقيقه هارون، ردا على الخالق قائلين: «قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»، كان من الطبيعى أن يخاف رجل البلاط الفرعونى ويكتم إيمانه، لكنه لم يكتم عن قومه الحقيقة.. وذلك جوهر رشده.
فامتلاك الحقيقة هو عين الرشد، لكن الجهر بها يمثل قمته.
وقد جهر مؤمن آل فرعون بالحقيقة، فى إحدى اللحظات الحاسمة التى وصل فيها فرعون إلى قمة الضلال، حين قرّر أن يقتل موسى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ»، لحظتها واجه الرجل قومه، قائلاً: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ».
لقد جاء موسى قومه بآيات وعلامات وأدلة على صدق إيمانه، التفت إليها الرجل الرشيد، وانتبه إلى ما توعد به «موسى» قومه من الهلاك إن لم يؤمنوا برسالته، وهو إما أن يكون كاذباً، وعليه كذبه فى هذه الحالة، أو يكون صادقاً، وبالتالى فالالتفات إلى ما يقول قد ينجى الناس من أذى كبير.. لقد كان الرجل الرشيد عقلاً يفكر، ويعرض الحقيقة من أقصر الطرق.
بعدها اتّجه الرجل المؤمن إلى تذكير قومه بالتاريخ، والمآلات التى انتهى إليها أقوام مثلهم أنكروا الحقيقة، وزيّفوا رؤيتهم للحياة، حتى أعماهم الضلال: «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ»، ولم ينسَ أيضاً أن يذكرهم بمآلهم فى الآخرة: «وَيَقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ».لقد اعتمد الرجل الرشيد خطاباً عقلانياً متماسكاً، يحلّل كلام موسى، وأداء فرعون، ومعطيات الواقع، وحقائق التاريخ، ومآلات المستقبل، وأخذ يوجّه قومه وينصح لهم.. لكنه لم يدرك أن المجموعة التى يوجّه إليها خطابه لا تحب الناصحين.