بقلم - د. محمود خليل
تجربة شديدة الثراء تقدمها لنا قصة نبى الله نوح، عليه والسلام، تجربة عامرة بالمعانى والدلالات حول هذا الإنسان الذى عاش، كما لم يعش غيره من البشر، فمكث على وجه الأرض ما يقرب من 10 قرون، وتقلبت عليه عدة أجيال من البشر، وانقسم عليه أهله ما بين مؤمن به وناكر لدعوته، وكان من الناكرين له ابنه الذى خرج من صلبه، وجعله قومه أضحوكة، حين لجأ إلى صناعة سفينة النجاة، كما ارتبط بتجربته حدث فريد فى تاريخ البشرية وهو حدث الطوفان الذى أغرق الأرض بما عليها ومن عليها، لتبدأ صفحة جديدة فى تاريخ الإنسانية.شخصية كانت حياتها بهذا الثراء لا بد أن يكون لها مفتاحها الخاص، وقد كان مفتاح شخصية نبى الله «نوح» هو شكر الله: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا».
كان نوح عبداً شكوراً. والشكر -كما تعلم- يعنى ظهور أثر نعم الله على عبده. أعطى الله تعالى نوحاً نعمة العمر فاستثمره فى الدفاع عن الوحدانية والحياة الصالحة المستقيمة، التى لا يخضع فيها إنسان لإنسان مثله، ولا يعبد فيها بشراً صنماً صنعه بيديه. أعطاه الولد فرباه على الإيمان، ولما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، أخلص لقومه وحاول إصلاحهم وصبر وتحمل فى سبيل ذلك الكثير.
لم يكن شكر «نوح» لربه مجرد كلمات يرددها بلسانه، يحمد ربه فيها على نعمه، بل كانت عملاً وإصلاحاً للواقع الذى يعيش فيه، فالشكر عمل وليس مجرد قول: «اعملوا آل داود شكراً». والشكر صبر «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». وقد تحمل «نوح» من قومه ما لا يتحمله بشر، ورغم ذلك صبر عليهم، كان يلتقط الوليد وهو غض طرى، ويعلمه الوحدانية والإيمان بالله الواحد الأحد، وما إن يكبر ويشب عن الطوق حتى يكفر بخالقه، ويغرق مع قومه فى عبادة الأصنام، ورغم ذلك واصل نوح الدعوة إلى ما يؤمن به فى دأب وأمل، ولم يتوقف إلا عندما جاءه إعلان من الله بالتوقف: «وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ».عاش «نوح» عبداً شكوراً وسط مجتمع وثنى تتعيش أجياله على الكفر بالله. وقد جعل الله تعالى الكفر نقيض الشكر فى القرآن الكريم. تجد ذلك فى قوله تعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، وقوله: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ».
كان شكر «نوح» لربه علامة إيمانه، وشكر الله هنا تجسد فى تحرير الإنسان من الفكر الوثنى وما يجره على الحياة من ويلات، فالوثنية مفتاح لشرَّين كبيرين يضربان المجتمعات: الاستبداد والفساد. تجد ذلك فى كل المجتمعات الوثنية. فى المجتمع المكى -على سبيل المثال- سادت، عند بعثة النبى، محمد صلى الله عليه وسلم، العبودية، وانقسم المجتمع إلى طبقات يستعبد بعضها بعضاً، واستبدت أوليجاركية التجار بمن عداها فأذلت وأضلت، وانتهى بها الأمر إلى رفع الأصنام على الكعبة، ليس إيماناً بعبادتها، فقد كانوا يدركون أن الله تعالى هو خالق السموات والأرض، ولكن تكريساً لمصالحهم لدى القبائل العربية الأخرى التى تدين بالولاء لقبيلة قريش، ودفاعاً عن مواقعهم كمسيطرين على طائفة العبيد والموالى والفقراء من أهل مكة، الذين قدسوهم كرموز، مثلما قدسوا أوثانهم.