بقلم - د. محمود خليل
شكلت قضية العدالة الاجتماعية القضية الأم فى كتابات نجيب محفوظ، رحمه الله، ويبحث الكثير من رواياته فى الطريقة الأكثر جدوى واحتراماً للإنسان التى يمكن من خلالها نشر العدل الاجتماعى فى الأرض.
هذه القضية لم تغِب عن المشهد العام فى مصر منذ الأربعينات من القرن الماضى، فكانت مسألة إعادة النظر فى احتكار قلة من الباشوات ملكية الأرض الزراعية مطروحة، والأحاديث عن ضرورة إصلاح شكل الملكية الزراعية فى مصر على أشدّها، وأفكار أصحاب الفكر الاشتراكى عن حقوق العمال ومحاربة احتكار أصحاب رأس المال لأدوات الإنتاج تتردّد على الألسنة، أضف إلى ذلك محاولات الإسلاميين للدخول على خط القضية دائبة، يشهد على ذلك كتاب «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» الذى ألّفه المرحوم سيد قطب.كثيراً ما قفزت الفكرة التى ما فتئ الإمام محمد عبده يُردّدها حول «المستبد العادل» خلال المناسبات التى طرحت فيها قضية العدالة الاجتماعية فى الأربعينات وما بعدها.
وجد البعض فيها ملاذاً آمناً لتبرير فكرة الاحتكار السياسى من أجل تحقيق العدل الاجتماعى، فلا بد من يد قوية تُمسك بزمام المال والثروات التى يملكها المجتمع، لتوزّعها بالعدل بين أفراده، تماماً مثل اليد القوية التى ما زالت تُنظّم توزيع مياه النيل على المصريين منذ عهد الفراعنة، مما أدى إلى نشأة أقدم حكومة مركزية فى العالم بهذا البلد.
اقترب عمر نجيب محفوظ حين قامت حركة الضباط فى يوليو 1952 من 41 سنة، وقد توقّف عن الكتابة بعد هذا العام لعدة سنوات متصلة، ثم خرج على الناس بروايته الشهيرة «أولاد حارتنا»، وكان ذلك عام 1959.
وفى هذه الرواية بدأ يطرح موضوع العدالة الاجتماعية، من خلال إسقاط رحلة أنبياء الله فى الإصلاح المثالى على واقع الحياة فى مصر، وغيرها من بلاد الله.
فى رواية «أولاد حارتنا» أنشأ «محفوظ» محيطاً بشرياً يملك «الجبلاوى» كل شىء فيه، فكل ما فى البيت الكبير وفى الخلاء ملك له وحكر عليه، وهو الوحيد الذى يملك حق توزيعه على أبنائه، وقد وضع صيغة توزيع ما يملك فى وصية احتفظ بها فى خلوته، لم يحصل أىٌّ من أبناء «الجبلاوى» على شىء من هذه الأملاك طوال أحداث الرواية، إذ أخرجتهم الأقدار من البيت الكبير إلى الخلاء، بما يسوده من ظروف خشنة، ومعاناة، وصعوبة بالغة فى الحصول على ما يقيم الحياة، خلافاً للبيت الكبير الذى يتوافر فيه كل شىء عند أطراف أصابع من يريد، دون جهد أو مشقة تتطلبها الحياة فى الخلاء.
بدأ الأبناء يتصارعون على احتكار أى خير يجود به الخلاء، والصراع غالباً ما يحسمه الأقوى وليس الأعدل، وكان حلم أهل الحارة الدائم أن يظهر بينهم قوى عادل (أو مستبد عادل) يملك القدرة على السيطرة على المتجبّرين، وترويضهم أو إخضاعهم، ليعدل بعد ذلك فى قسمة خير الحارة على الجميع، ولم يجد المبدع الراحل نجيب محفوظ نماذج لامتلاك القوة الرشيدة والنبيلة والعادلة خيراً من نماذج أنبياء الله تعالى ورسله، فاستدعى سيرتهم العطرة، وهو يرسم شخصية «المستبد العادل»، أو بعبارة أخرى «الفتوة العادل».