بقلم - د. محمود خليل
لا يدرى أحد ما السر وراء شغف العرب الأوائل بالتقليل من شأن المصريين، والاجتهاد فى أن يثبتوا لأنفسهم أنهم أفضل منهم وأعلى كعباً.. هذا الطرح تجده حاضراً منذ اللحظات الأولى لسيطرة العرب على مصر وحكمها، وظهرت تجلياته فى ذلك الطلب الشهير الذى كان كثيراً ما يطلبه كبار أهل الجزيرة من كل من رأى هذا البلد: «صف لى مصر».. وأقدم وصف يمكن أن تجده فى هذا السياق ذلك الذى يقول: «مصر نيلها عجب.. وترابها ذهب.. ونساؤها لعب.. ورجالها طرب.. وهى لمن غلب».لا أحد يعرف على وجه التحديد من قائل هذه العبارة، والتى جاءت فى صياغات متنوعة، وأوردها المقريزى فى «خططه»، وأشار إليها المسعودى فى «مروج الذهب».
البعض ينسبها إلى عمرو بن العاص، ويشير إلى أنه صاغها فى مقام «وصف مصر» لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه. أياً ما كان الأمر فقد شاعت هذه العبارة وانتشرت فى وصف مصر، وفى كل الأحوال، فإن قائلها شخص عربى أراد أن يشرح من خلالها خصال المصريين وأخلاقياتهم.والناظر إلى الوصف السابق يلاحظ أنه يعتمد على الاحتفاء بالأرض، والإساءة إلى البشر.
نيل مصر عجب، تلك حقيقة لا مراء فيها، وتقرير لواقع جغرافى يعرفه القاصى والدانى، وأما أن أرضها ذهب، فتلك حقيقة أخرى، ولو أننا عبرنا على ما تختزنه أرض مصر فى باطنها من ثروات، وما كان يروج على سطحها من خصب، فيكفى أن نسترجع الكنوز الأثرية الدفينة فى كل شبر من أشبارها، الأمر الذى جعل مصر تحوز ما يقرب من ثلثى ثروة العالم من الآثار.
تعال بعد وصف الأرض إلى ما تحمله العبارة من وصف للبشر، فهى تصف نساء مصر بـ«اللعب»، وهو وصف يحمل فى طياته دلالات إيجابية، وأخرى سلبية، فأما الإيجابى فيرتبط بما تتمتع به المصرية من أنوثة، وأما السلبى فيرتبط بما يحمله وصف اللعب، من ميل إلى العبث، والعلاقات العابثة. ورجال مصر من وجهة نظر قائل هذه العبارة «طرب»، أى أنهم محبون للاستماع إلى الغناء، مولعون بالكلمة الأخاذة، والنغم العذب.
وظنى أن العربى قائل هذه العبارة حاول أن يدمغ المصريين بمحبة اللهو، لأن العقلية البدوية تربط باستمرار بين «السمع» و«اللهو»، لكن يكفى فى هذا السياق أن نشير إلى أن رجال مصر «الطرب» هؤلاء، كانوا خير من قرأ القرآن الكريم تلاوة وتجويداً، ولعلك تعرف العبارة الشهيرة التى تقول: «نزل القرآن فى مكة، وطبع فى إسطنبول، وقرأ فى مصر».
نأتى إلى جملة: «وهى لمن غلب»، وقد أراد قائلها أن يبين من خلالها أن المصريين عبيد لمن يغلبهم على أمرهم، وأنهم شعب مغلوب على أمره. قد يكون لهذه العبارة معنى إذا تحدثنا عن طبائع الشعوب بشكل عام، فأى شعب فى الدنيا، بما فى ذلك شعوب الدول المتقدمة، مغلوب على أمره أمام من يتسلط عليه، بل إن إنسان المعمورة فى هذا العصر - وكل عصر- مغلوب على أمره أمام آحاد من البشر يسيطرون على مقدراته ويتحكمون فى حياته، ولكن تخصيص الحديث عن المصريين كشعب مغلوب على أمره، هو الهزل بعينه، ولربما كان المصريون من أكثر الشعوب تمرداً على من يتسلط عليهم، ويأخذ تمردهم أشكالاً عدة، تبدأ من النكتة والسخرية ممن يظلمهم، وتنتهى -فى أحوال- بالعصيان والثورة عليه.
والمصرى عندما يسكت على وضع سيئ ويخضع له، لا يعبر فى ذلك عن حالة «غُلب»، بل عن رضاء بما هو سيئ خوفاً من أن يأتيه الأسوأ، هكذا علمته حكمة التاريخ المديد الذى عاشه.