بقلم - د. محمود خليل
اشتمل الدستور الأخلاقي للحسن بن علي، رضي الله عنهما، على تحديد دقيق لمعنى "الإخاء" من ناحية، ومعنى "الجُبن" من ناحية أخرى، والمتأمل لتعريفة لمدلول كل قيمة من هاتين القيمتين يدرك أنه أمام شيخ جليل من شيوخ الحكمة.
حدد "الحسن" معنى الإخاء في: الوفاء فى الشدة والرخاء، أما "الجبن" فيعني: الجرأة على الصديق والنكول عن العدو.رؤية الحسن بن علي لمفهوم الإخاء كنوع من الوفاء في الشدة والرخاء يعكس فهمه لمعنى الرجولة. فالرجال مواقف، كما يقولون، والأخ لا يظهر -كأخ بيولوجي أو صديق أو حبيب- إلا في وقت الشدة. فالصداقة التي تقوم على الاستفادة من الصديق وقت الرخاء، والتخلي عنه وقت الشدة، هي عملة مزيفة، وكذا الأخوة أو الحب.
للمصريين في هذا السياق مثل يقول: "اشتدي يا شدة.. وريني عدوي من صديقي".تعريف "الحسن" للإخاء -كشكل من أشكال الوفاء- يدلل على أن القرآن، بآياته الكريمة وتوجيهاته السامية، حاضر في عقله ووجدانه. فالله تعالى يقول: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".. ويقول: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط".. ويقول: "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم".. فالوفاء مطلوب في كل فعل من أفعال الإنسان، وما عداه خيانة، فعدم الوفاء بالعقود خيانة، وعدم الوفاء بالمعاهدات خيانة، وتبديد الأمانات خيانة، وعدم الوفاء في الكيل وبخس الناس أشيائهم خيانة.. وهكذا تتدرج الأمور حتى تصل إلى خيانة العلاقات الإنسانية، من صداقة وزمالة وحب وزواج.ومن الملفت أن الحسن بن علي جعل "الجُبن" نقيض الوفاء.
وكأنه يريد أن يقول أن سقوط الإنسان في بئر الخيانة دائماً ما يكون مصدره "الجبن"، ويظهر ذلك في التعريف الذي قدمه لهذا الخلق المذموم، وفيه يقول " الجبن يعني الجرأة على الصديق والنكول عن العدو". ما أعمق هذا التعريف لمفهوم "الجبن". فالشخص الجبان جرىء على الصديق الذي يأمن جانبه، هارب فار أمام العدو الذي يخشى بطشه.
كم من أشخاص تجدهم يتجرأون على أقرب الناس إليهم، لأنهم يأمنون جانبهم. الأبناء الذين يتجرأون على الآباء والأمهات، وهم واثقون بأنهم لن ينالوهم بسوء، الزوج الذي يتجرأ على زوجته، والزوجة التي تتجرأ على زوجها، ثم الصديق أو الحبيب الذي يتجرأ على صديقه أو حبيبه، وهو مطمئن البال مستريح الخاطر، لأنه يعلم أن الطرف الآخر لن يعاقبه على ذلك.
في المقابل تجد هؤلاء المتجرئين يهربون من مواجهة من يملكون القدرة على عقابهم.. مثل الرجل الذي يتطاول على أمه التي أنجبته ويؤثر السلامة مع زوجته، أو الابن الذي يتجرأ على أبيه، ويتذلل لرئيسه في العمل، أو الشقيق الذي يتجرأ على شقيقه، ولا يملك ذلك أمام صديق يستطيع أن يعاقبه.نحن أمام تعريف عبقري للجبن، يصف من تمكن منه هذا الخلق بأنه أسد على من يأمن، ونعامة أمام من يستطيع رده وعقابه، وهو تعريف يضع الجبن كمقابل للوفاء، وكأن "الحسن بن علي" أراد أن يقول أن الجبن نوع من الخيانة للذات وللمقربين من الفرد، الذين يأمن عقابهم.. ومن أمن العقاب أساء الأدب.