بقلم - د. محمود خليل
زمان كانت الصعلكة إبداع، والصعاليك مبدعون.. كان أهم ما يميزهم أنهم لا يملكون من متاع الدنيا إلا القليل، ويعتمدون على غيرهم فى تسديد احتياجاتهم.يحكى عبدالمنعم شميس أن واحداً من زعماء الصعلكة الشعرية فى العصر الحديث، وهو الشاعر محمد مصطفى حمام، اشترى ذات يوم سيارة مستعملة بـ25 جنيهاً ادخرها على مدار عدة سنوات، ولم يكن معه مليم بعد أن ابتاعها يشترى به البنزين، لكى يسير بها، فما كان منه إلا أن اخترع اختراعاً صعلوكياً جديداً، فدخل ذات يوم إلى أصدقائه الذين ينتظرونه على المقهى، وهو يحمل صفيحة فارغة، استغرب لها أصدقاؤه. وضعها أمامهم، وطلب من كل واحد فيهم أن يدفع «اللى فيه القسمة»، وما إن جمع ثمن البنزين حتى فر بالصفيحة، وموّن السيارة، وانطلق.
كانت السيارة مستعملة ومرهقة من كثرة السير، لكنها كانت تعجب صاحبها الشاعر المتصعلك، ومؤكد أنه حمل الصفيحة عدة مرات من أجل أن يجمع فيها «العادة» حتى يشترى البنزين، أو لإصلاحها.لم يكن مصطفى حمام عاطلاً، بل كان يكسب الكثير، لكنه كان هلوكاً، اعتاد على مجالسة الباشوات ووجوه المجتمع، وكان بالنسبة لهم اختراعاً شديد العجب، خصوصاً حين يتلو عليهم شعراً ينسبه لفحول الشعراء، مثل المتنبى، ثم يفاجئهم بعدها بأنه من إبداعه، أضف إلى ذلك مهارته العجيبة فى تقليد أصوات قرّاء القرآن وهم يتلون آياته الكريمة، ورموز السياسة فى عصره وهم يخطبون، بصورة تثير إعجاب من حوله.
الواضح أن «حمام» كان يمتلك موهبة شعرية كبيرة، بل ومواهب أخرى متنوعة، ولو أنه تفرغ لتنمية مواهبه لكان له شأن آخر فى تاريخ الشعر والأدب، لكنها محبة «الصعلكة» التى دفعته للتنقل من وظيفة إلى وظيفة، ومن بلد إلى بلد -فى أواخر عمره- بحثاً عن العمل، لكنه لم ينتج فى النهاية سوى ديوان شعر واحد، خلّد اسمه، لأن الرجل رحمه الله كان موهبة حقيقية.
عمل مصطفى حمام بالصحافة فترة وابتكر أسلوباً يمكن وصفه بـ«الكتابة المتصعلكة»، إذ كان يعمد إلى توزيع الاتهامات على الشعراء والأدباء، فهذا سرق من فلان، وذلك سطا على المعانى التى سبق وابتكرها علّان وهكذا، ومؤكد أن هذا الأسلوب كان يصيب الكثيرين بالامتعاض، وكان الرجل يعتذر بعدها زاعماً أن الأمر كان دعابة ليس أكثر.
شىء صعب للغاية أن تتعامل مع شخصية لا تفرق بين الصدق والكذب، والجد والهزار، والصحيح وغير الصحيح، فكل شىء عندها مختلط، بسبب ولعها بالصعلكة، ويؤدى ذلك بالبداهة إلى تغييب الحقيقة، بحيث لا يستطيع الفرد أن يتوقف لديها على معلومة صلبة، تساعده على الحكم عليها.
الصعلكة قد تكون طاقة إبداع لدى الشعراء، لكنها طاقة إرباك بالنسبة للواقع الذى يعيشون فيه، وقد كان الشاعر محمد مصطفى حمام سبباً فى إرباك المجتمع الفكرى والأدبى، بل والرأى العام المصرى، ذات يوم، حين لعب لعبة كبرى، لا تدرى وجه الحقيقة فيها وتتعلق بموضوع غاية فى الخطورة.. سأحكى لك عنه.