بقلم - محمود خليل
الأديان كلها تدعو إلى إعمال العقل كوسيلة للإيمان بخالق السماوات والأرض. كتب عباس محمود العقاد كتاباً كاملاً عنوانه «التفكير فريضة إسلامية»، أكد فيه دعوة الإسلام إلى التفكر والتدبر والتأمل فى الذات والآخر، والتأمل فى الحياة والكون المحيط واستخلاص القوانين الحاكمة له.
الإيمان بالله عمل من أعمال العقل، ويسكن بعد ذلك فى القلب. وفكرة الإيمان الآلى التى تصف أن هذه الشخصية أو تلك من شخصيات الصحابة وتابعيهم آمنت بمجرد أن سمعت آيات الذكر الحكيم لا تنهض أمام أى تحليل علمى متأنٍّ لنصوص التراث، فعمر بن الخطاب -رضى الله عنه- عاش رحلة من التفكر والتدبر قبل أن يعلن إسلامه، ولم يؤمن بتلك الصورة الآلية التى رسمها البعض، حين قرأ آيات من كتاب الله كانت فى يد شقيقته، ورحلة سلمان الفارسى فى البحث عن الإيمان مشهورة، والمغامرة العقلية التى خاضها أبوذر الغفارى معروفة.
كل تجارب الإيمان تشهد على عقل توقف وفكّر وتدبّر الأمر ليستقر الإيمان بعدها فى القلب.. أتدرى لماذا؟ لأن الإيمان رأس الحكمة، وجائزته الكبرى: «ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتىَ خيراً كثيراً». ولا حكمة بغير عقل يفكر ونفس تتأمل.
الجيل الأول من الصحابة امتلك عقولاً نقدية، فهمت الفارق بين التسليم الإيمانى للخالق، والتفاعل الناقد مع غيرهم من خلق الله، ممن يتساوون معهم فى امتلاك العقل. التسليم للخالق مثّل بالنسبة لهم قمة العقل، فأين يذهب الإنسان من الخالق الذى يملك ناصية حياته وموته؟ وممارسة الحق فى نقد من حولهم مثّل قمة التعقل، انطلاقاً من أنهم بشر مثلهم يخطئون ويصيبون. انتقد عمر بن الخطاب موقف أبى بكر فى حرب الردة، ثم تبين له فيما بعد أن أبا بكر كان أصوب رأياً، وانتقد عوام المسلمين (رجالاً ونساء) عمر بن الخطاب فى بعض المواقف، وانتقد بعض الصحابة أداء عثمان، ثم انتقد بعضهم أداء على بن أبى طالب. الكل كان ينظر إلى الأحداث من منظوره العقلى ثم يقول رأيه بأقصى درجات الشجاعة.
تاريخ التقدم فى حياة المسلمين ارتبط بالفترات التى مورست فيها حرية العقل والتفكير، أما تراجعهم فارتبط بالفترات التى أدخلتهم فيه بعض التجارب إلى حظيرة الطاعة والتسليم. بإمكانك أن تعاير بهذا المعيار فترات الصعود والهبوط فى تاريخ الدولة الأموية ثم العباسية، وتتعرف على الكيفية التى انهار بها دور العقل فى حياة المسلمين، حتى وصل إلى ما وصل إليه أواخر عصر المماليك، وخلال العديد من فترات الحكم العثمانى.
المتأمل لحال الشارع المصرى على سبيل المثال أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، يجد أغلب الساعين فيه قد باعوا عقلهم فى سوق التفاهة، فمنهم من أصبح يجرى وراء مجنون مكانه «المورستان» يظن فيه الولاية ويطلب منه البركة، ومنهم من انشغل بأحمق يخلع ملابسه فى الشارع ويقول إن ذلك علامة من علامات الدخول فى كتيبة الأولياء الصالحين، ومنهم من يتزاحم على الدار التى يقول الناس إن فيها عجيبة من عجائب الزمن، وهى طفل برأس فيل، ولدته امرأة بسبب تنزهها قبل الولادة فى بركة الفيل ووحمها على الفيل الشهير الذى كان يشرب منها، ومنهم من تزاحم فى المقابل على البقرة التى ولدت عجلاً برأسين.
لذا تجد أنه عندما غزا نابليون بر مصر عام 1798 قاومه المصريون بـ«الحماسة» وليس بـ«العقل»، يكفى أن تستدعى مشهد عمر مكرم وهو يحمل البيرق النبوى ليلهب حماس المصريين ويدعوهم إلى الجهاد ضد الغازى، وصرخات الشيخ سليمان الجوسقى، ثم انظر على سبيل المثال كيف وصف «الجبرتى» الثوار المصريين فى ثورة القاهرة الأولى بحشرات الحسينية وحرافيش بولاق والزعار والمنسر وغير ذلك، لأنهم خرجوا يخربون وينتقمون، ولم يكن فى بالهم تغيير أوضاعهم.