بقلم - محمود خليل
أزمة التعليم فى مصر قديمة قِدم معرفة المصريين للمدرسة ثم الجامعة. ميلاد التعليم فى مصر كان ذا طابع براجماتى بحت، عكس ميلاده فى الغرب الذى اتخذ طابعاً إيمانياً بقيمته وجدواه فى الخروج من ظلام العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، والارتكان إليه كوسيلة للسيطرة على الحياة والطبيعة والبشر.
أذكر أننى حدثتك عن أن نشأة المدارس الأولية (الابتدائية والتجهيزية) والمدارس العليا فى عهد الوالى محمد على ارتبطت بأهداف تحديث الدولة، وإيجاد موظفين قادرين على العمل فى دواوين الحكومة والإشراف على أعمالها، وهو هدف مهم وجوهرى من أهداف أى تجربة تعليمية، لكن مشكلته أنه جعل المدرسة مفرخة للموظفين المهيَّئين للتعامل مع الدفاتر والمدونات الحكومية، دون أن تتمكن فكرة العلم فى حد ذاتها من عقولهم وأساليب تفكيرهم، وتصبح أفكاره وقواعده أساس نظرتهم للحياة وما يتفاعل فيها.
نظرة الأهالى إلى المدرسة منذ محمد على وحتى اللحظة الحالية براجماتية بامتياز أيضاً. فهى من وجهة نظر الغالبية مؤسسة للحصول على الشهادة، والشهادة وسيلة لنيل وظيفة، والوظيفة تضمن الدخل الثابت الذى يقى الفرد من تقلبات الحياة. ورغم تدنى أوضاع الموظفين، وعجز الشهادة فى الكثير من الأحيان عن تمكين صاحبها من الوظيفة، فإن قيمتها لا تزال باقية.
حقيقة اعتناء المجتمع بالشهادة أكثر من التعليم، وولع الحكومات بالكتبة المدجنين أكثر من المفكرين المبدعين، دفعت العديد من رواد الفكر فى القرن العشرين إلى محاولة تصحيح المفاهيم، وإعادة الاعتبار إلى التعليم مقابل الشهادة، والعلم مقابل التعليم، كمحاولة لجعل التفكير العلمى أساساً للنهضة الاجتماعية العامة، لكن أصواتهم بدت ضعيفة فى سوق الصخب الامتحاناتى والشهاداتى.
لك أن تراجع دعوات المفكر الراحل «سلامة موسى» إلى تمكين العلم والتفكير العلمى من العقل الاجتماعى العام، وتحسب ثمرتها، ثم تراجع كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة» لزكى نجيب محمود الذى نبه فيه إلى وجود خلل فى فهم المعلمين والمتعلمين والقائمين على التعليم لأهداف المدرسة. فالتعليم من وجهة نظره ليس مجموعة من الأوراق التى تحمل معلومات يتم حشو عقل الطالب بها ليسترجعها فى الامتحان، ثم ينساها بعد ذلك، بل له أهداف أكبر بكثير تتعلق بتفاعل العقل مع الحياة.
قال زكى نجيب محمود إن تعليم الرياضيات ليس الهدف منه تدريب المتعلم على حل المسائل أو تطبيق النظريات الهندسية وفقط، بل يتجاوز ذلك إلى جعل التفكير الرياضى أساساً لتفاعل المتعلم مع الحياة، وقس على ذلك كل المقررات الأخرى. فمن التاريخ تتعلم قوانين السياسة وحركة الواقع وطبيعة الصراعات التى تتفاعل داخلياً وخارجياً، ومن الجغرافيا تتعلم أن العالم خريطة يتفاعل فيها البشر مع الأرض، وتفهم كيف تتحكم الجغرافيا فى التاريخ وكيف يسهم كلاهما فى صناعة المستقبل.
مشكلة التعليم فى مصر ببساطة أنه لم يخرج من المدرسة أو الجامعة إلى المجتمع، لم يخرج من أى من المؤسستين فى صورة بشر تغير فكره وسلوكه ونظرته إلى الحياة، بل كان ولا يزال يخرج -فى الأغلب- فى صورة ورقة رسمية تؤكد أن حاملها حاصل على شهادة، لكنها بحال لا تعد مؤشراً حاسماً على حصوله على علم أو تعليم.