بقلم - محمود خليل
امتاز الأولون بقدر واضح من السخاء وهم يرسمون معالم شارع الصليبة، فعلى امتداد الشارع يظهر للمتجول فيه العديد من المساجد الأثرية، مثل مسجد شيخون الناصرى ومسجد ثغرى بردى، بالإضافة إلى الأسبلة (جمع سبيل) والخانقاه (الخلوات المخصصة للعبادة)، لكن يبقى «سبيل أم عباس» علامة بارزة يزدان بها شارع الصليبة، دفعت البعض إلى تسميته شعبياً باسمه: «شارع السبيل».
سبيل أم عباس شيدته السيدة «بنبة قادن» أم الوالى «عباس حلمى الأول» وزوجة «طوسون باشا» نجل محمد على. ارتبطت حياة هذه السيدة بالعديد من المآسى، وكان الموت ملاحقاً لأحبائها بصورة تثير الشجن، فزوجها «طوسون» توفى وعمره 22 عاماً فقط، واختلف المؤرخون فى سبب وفاته، وهل مات بعد إصابته فى إحدى المعارك التى قادها ضد الوهابيين، أم بالطاعون، كما كان يردد محمد على.
وفاة «طوسون» فى هذه السن المبكرة أصاب رأس الأسرة العلوية بالذهول. وعندما علمت حاشية محمد على بالنبأ الأليم أخذ كل منهم يتوسل إلى الآخر ليحمل الخبر المشئوم إلى الوالى الأب، ولما علم أصر على أن يذهب بنفسه لاستقبال جثمان ولده، وشيّعه بالبكاء والنحيب. وقد وقعت الوفاة عام 1816 بعد سنوات خمس من مذبحة القلعة التى دبرها محمد على ضد المماليك 1811، التى دعا الوالى فيها المماليك للاحتفال الكبير المقام بالقلعة لتوديع الحملة العسكرية التى يقودها ولده الأثير طوسون باشا لتأديب الوهابيين.
حزن الزوجة «بنبة قادن» على زوجها كان عظيماً أيضاً، وقد وجدت سلواها فى ولدها منه «عباس حلمى الأول»، ومن فرط حبها لولدها ربّت لديه عقدة خوف ممن حوله، وخصوصاً من أفراد الأسرة العلوية، فلم تكن العلاقة بينه وبين عمه إبراهيم وكذلك عمه سعيد (الذى كان يصغره بـ9 سنوات) على ما يرام، وكانت علاقته بعمته نازلى بنت محمد على على أسوأ ما يكون. كان عباس حلمى من الأسماء المرشحة لتولى حكم مصر بعد إبراهيم باشا نجل محمد على، بحكم أنه أكبر ذكور الأسرة العلوية، وشاءت الأقدار أن يموت إبراهيم على حياة عين أبيه ليرث العرش من بعده ابن شقيقه وحفيد الوالى الكبير عباس حلمى.
مؤكد أن فرحة الأم بصعود ابنها إلى سدة الولاية كانت كبيرة، ومن الوارد أن تكون قد نصحته بالحذر من أعمامه وعماته، وقد بان أثر ذلك واضحاً فى سلوك عباس الأول، فابتعد عن الجميع، وحكم البلاد من وراء حجاب، وبدأ يعد العدة لتولية نجله إلهامى باشا حكم مصر من بعده، لكن الظروف لم تسعفه. ففى إحدى ليالى الحكم دخل إلى سريره لينام فى قصره الذى بناه بعيداً عن القاهرة (فى بنها)، ومعه مملوكاه المسئولان عن خدمته، واستيقظ خدم القصر فى الصباح، وبادروا إلى إيقاظه فوجدوه قتيلاً، ولم يجدوا معه المملوكين، وتردد أن عمته نازلى هى من دست عليه المملوكين اللذين قتلاه.
أبت الأحزان إلا أن تحكم حلقتها حول رقبة «بنبة قادن» التى فقدت زوجها وهى شابة صغيرة، ولما شب ابنها إذا بيد الغدر العائلى تغتاله. وعندما يصادف الحزن أصحاب القلوب النقية فإنه يتحول إلى سحابات رحمة تظل أكثر ما تظل المستضعفين والبسطاء. وذلك ما حدث بالضبط مع «بنبة قادن»، فبنت «السبيل» الذى اشتهر باسمها بشارع الصليبة ليوفر الماء النقى لكل مار بالشارع على مدار العام، وألحقت به مكتباً لتعليم الأطفال قواعد القراءة والحساب وتحفيظ القرآن الكريم.
وما زال «سبيل أم عباس» قائماً فى شارع الصليبة حتى الآن وشاهداً على ولع من رقّت قلوبهم وصفت نفوسهم من الأولين بزرع الخير، ودليلاً شاخصاً على الإهمال الذى يتعامل به الآخرون مع تراثهم التاريخى الغنى.