بقلم - د. محمود خليل
كأن العدل فى الحكم جزء من النبوة، تستطيع أن تستخلص ذلك من قصة «ذى الكفل»، فكُتاب «قصص الأنبياء» لم يستطيعوا أن يقرروا على وجه التحديد هل كان «ذو الكفل» نبياً مرسلاً من السماء أم عبداً صالحاً اشتهر بين قومه لما قام به من أدوار فى حياتهم؟ لكنهم فى النهاية يتفقون على أن «ذا الكفل» كان رجلاً صالحاً، وحكماً عادلاً بين خلق الله.ويشير «ابن كثير» إلى أن «ذا الكفل» هو ابن نبى الله أيوب عليه السلام، انطلاقاً من أن ذكره فى القرآن الكريم جاء بعد «أيوب»، وهو قياس فى تقديرى ليس فى محله، لأن الإشارة التى جاءت فى القرآن الكريم إلى «ذى الكفل» جاءت ضمن مجموعة من الأنبياء: «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ».أياً كان الأمر فإن قصة «ذى الكفل» فى القرآن الكريم يمكن القول بأنها من «القصص القصيرة» فى القرآن الكريم، فثمة إشارة فقط إلى اسمه، لكن تفاصيل تجربته لم ترد بالتفاصيل السخية التى جاءت بها قصص أنبياء آخرين، مثل إبراهيم ويوسف وموسى وغيرهم.والواضح أن «ذا الكفل» لقب وليس اسم النبى الذى نتحدث عن سيرته، وأنه اكتسبه بعد أن تكفل لقومه بأن يكفيهم أمرهم، ويقضى بينهم بالحق والعدل، فسمى لذلك «ذو الكفل»، وقد اختاره نبى الله «اليسع» بعد أن طعن فى السن خليفة له فى قومه ليقضى لهم فى أمورهم، ويقود مسيرة حكمهم، وقد اختاره على شروط ثلاثة: صيام النهار، قيام الليل، البعد عن الغضب.ارتبط بشخصية «ذى الكفل» العديد من الأحاديث العجيبة التى تسند فكرة ورعه وتقواه، وكيف أنه كان يصوم النهار، ويقوم الليل، وكيف ساعدته تقواه على أن يخوض معارك شرسة مع الشيطان وينتصر عليه فيها. وقد ذكر «ابن كثير» فى كتابه «قصص الأنبياء» طرفاً منها، لكن أحداً لم يتوقف أمام الشرط الأخطر الذى وضعه «اليسع» لذى الكفل وهو يختاره لسياسة أمور قومه، والمتمثل فى البعد عن الغضب.ليس هناك خلاف على أن الصوم والصلاة يورثان فى النفس خشوعاً وصبراً وتقوى، وهى قيم تمهد صاحبها لامتلاك شخصية أهدأ، وأقدر على التحكم فى انفعالاتها، بحيث لا تغضب لأتفه الأسباب، لكن يبقى أن منسوب الثبات الانفعالى يختلف على العموم من شخص إلى آخر، فهناك من تساعده تركيبته النفسية على امتصاص غضبه وتحمل الآخرين، بحيث لا تتدخل انفعالاته فى الحكم عليهم، وهناك من يعجز عن ذلك. وفى كل الأحوال الغضب وارد، وقد كان نبى الله موسى عليه السلام يغضب فى بعض الأحوال، كما حدث حين ألقى ألواح التوراة، لما وجد بنى إسرائيل قد عبدوا عجلاً من ذهب.. يقول الله تعالى: «ولَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ».الغضب إذن مسألة إنسانية، لكن مؤكد أن من يملكون منسوباً أعلى من الثبات الانفعالى أقدر على التحكم فى مشاعرهم، حين يستفزهم أحد، وليس ثمة خلاف على أن البعيد عن الغضب أقرب إلى العدل عند الحكم، لأن الغضب يولد كراهية قد تؤدى إلى الظلم، وقد قال الله تعالى فى القرآن الكريم: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا».. وقال النبى صلى الله عليه وسلم «لا تغضب ولك الجنة».ليس غريباً إذن أن يكتسب «ذو الكفل» عليه السلام نبوته أو شهرته كأحد عباد الله الصالحين من بعده عن الغضب.