بقلم - د. محمود خليل
لم تكن أغانى سيد درويش تفوت فرصة للنقد السياسى والاقتصادى إلا وتقرنها بنوع من النقد الاجتماعى.فى أغنية «هز الهلال يا سيد» التى تناول فيها «الشيخ» أحوال الموظفين ومعاناتهم مع المرتب العاجز عن الوفاء باحتياجاتهم، تجده يتطرق إلى مسألة عدم تنظيم الإنجاب، وولع بعض السيدات بكثرة العيال، لأنها تجد فى ذلك وسيلة لكلبشة الرجل.
ثم تجده بعدها يتطرق إلى ظاهرة اجتماعية أخرى كانت حاضرة فى مصر أوائل القرن العشرين، وهى ظاهرة تعدد الزوجات، وذلك فى أغنية «شد الحزام على وسطك».
عبارة «شد الحزام» من العبارات الخالدة فى الوجدان المصرى، وهى تحضر فى اللحظات التى تضيق فيها الأحوال الاقتصادية وتتعقد ظروف المعيشة، حيث تبادر الحكومات إلى مطالبة المواطنين بشد الحزام.
ولعلك تعلم أن مصر مرت عام 1918 بأزمة اقتصادية طاحنة، نتيجة تداعيات الحرب العالمية الأولى، وقد أصابت هذه التداعيات التجار بضربة موجعة نتيجة توقف عمليات الاستيراد والتصدير.من ضمن الجمل اللطيفة التى وردت فى الأغنية: «دى خبطة جامدة وجت على عينك يا تاجر.. يا وحستك دلوقت.. لا وارد ولا صادر.. يحلها ألفين حلال.. ربك قادر». فتوقف حركة الشحن نتيجة الحرب هز أوضاع العديد من التجار فى مصر، كما نفع تجاراً آخرين، فمن كان لديه بضائع مخزنة انتفع كثيراً، بسبب الارتفاع المهول فى أسعار بيعها، مقارنة بالسعر الذى اشتراه بها قبل الحرب، وعلى هؤلاء كان يطلق «أغنياء الحرب»، وهم فى أغلب الأحوال قلة، أما غالبية التجار، فقد عانوا الأمَرّين نتيجة توقف حركة الاستيراد والتصدير، مما أصاب الاقتصاد فى مقتل، وكانت الضربة أشد وجعاً للتجار (الوسطاء) الذين يعتمدون على ما يستورده رجال المال.
لم يكتفِ سيد درويش وهو يغنى واصفاً ما آلت إليه طبقة التجار على المستوى الاقتصادى والمعيشى، بل تطرق أيضاً إلى ما يعانيه بعضهم نتيجة الزواج باثنتين أو أكثر: «قل لى فى عرض النبى يا حسين.. رايحين نلاقيها منين ومنين.. والإس متجوز اتنين.. يا دنيا روقى جاتك البين».
فالمعاناة كانت مضاعفة للتاجر الوسيط المسئول عن بيتين أو أسرتين، وكلمات الأغنية تحمل إدانة لمن يفعل ذلك، لأنه هو الذى وحل نفسه، ولم يأخذ فى الاعتبار تقلبات الأيام، والعاقل مَن لم يغتر بالدنيا حين تعطيه، لأن ذلك يصونه من الاندفاع، وهو أيضاً من لا ييأس حين تسلب منه الدنيا شيئاً، لأن ذلك يحميه من الترنح والسقوط.. فالدنيا هكذا، تعطى وتمنع، والناجى الوحيد فيها هو من يستمد قدرته على الحياة من إثراء نفسه، وليس بملء جيبه، لأن الغنى الحقيقى كما تخلص أغنية «الشيخ» هو غنى النفوس: «فلوس دى إيه اسكت يا جاموس.. هيه السعادة فى غنى النفوس».