بقلم - د. محمود خليل
لم تكن مسألة الفصل بين الدين والسياسة فى فكر الزعيم مصطفى النحاس تعنى بحال تحييد الدين فى الحياة، بل يمكن القول بأن الرجل كان «سياسياً» محترفاً، وفى الوقت نفسه «مسلماً» مصرياً تشرب من الثقافة العامة التى تحكم تدين المصريين.
السياسة فى نظره عملية مهنية تحكمها قواعد دستورية لا بد أن يلتزم بها الجميع، وواجب رئيس الحكومة رعايتها والدفاع عنها. أما الدين فحالة إنسانية تنظم علاقة الفرد بربه، وحالة اجتماعية تدفعه إلى الذوبان فى الثقافة الدينية السائدة فى المجتمع الذى يعيش فيه.بانت مسألة التفرقة بين موقع الدين من السياسة وموقعه من المجتمع واضحة فى فكر «النحاس»، حين مات الملك فؤاد وورث عرش مصر الملك فاروق.
فقد أراد الأمير محمد على (نجل الخديو توفيق)، الوصى على العرش لحين بلوغ فاروق السن القانونية للتتويج، إعداد حفل يمكن وصفه بـ«المملوكى» للتتويج، تجتمع خلاله هيئة كبار علماء الأزهر بحضور أمراء البيت العلوى، وكبار شيوخ الدين والسياسة فى مصر، ويقوم الشيخ «المراغى» خلاله بحمل سيف محمد على الكبير ليمنحه للملك الشاب الجديد ويضع تاج الملك على رأسه.
مسألة إقحام الدين فى أمر سياسة كان واضحاً فى هذا المخطط، فالأمير محمد على توفيق عاش بموروث فكرى عثمانى مملوكى يحن لزمن «الخديويين»، الذى جلب على مصر الاحتلال الإنجليزى فى عهد أبيه.
والشيخ المراغى، شيخ الأزهر، كان ميالاً إلى الأحرار الدستوريين، وقد تولى مسئولية تعليم الملك الجديد أمور دينه، فيما يشبه وظيفة المعلم الخصوصى، وكان مثل كثيرين من كهول السياسة والدين فى ذلك التوقيت، يريد طوىّ الملك الشاب تحت جناحه، ولا توجد وسيلة أنجح فى ذلك من أن يكون «شيخ الإسلام» المصدر الذى يمنح الملك شرعيته (السيف والتاج).
كان النحاس باشا مستوعباً لحدود الأمر جيداً، ويفهم -كما يحكى فى مذكراته- الرغبات الساذجة التى تحكم الأمير محمد على، والميل الواضح من جانب الشيخ المراغى إلى الأحرار الدستوريين، فواجه الأمر بحنكته المعهودة. وواجه الأمير وشيخ الإسلام بالحقيقة الواضحة التى توافقت عليها الأمة، والمتمثلة فى الالتزام بمبادئ الدستور الذى ينص على أن الأمة مصدر السلطات، وأن ممثلى الأمة داخل مجلس الشيوخ هم مصدر الشرعية، وأن التتويج الشرعى يتم أمام هذا المجلس حين يقسم الملك قسم الولاء للدولة أمام أعضائه.
لم تكن المسألة إذاً مسألة دين ولا يحزنون، بل رغبة فى التمسح بالدين، من أجل ضرب الفكرة المستنيرة التى ارتكن عليها حزب الوفد حينذاك: «الدين لله والوطن للجميع»، وهى فكرة لم تكن تعنى فى تجربة النحاس باشا تحييد إيمانه كمسلم، أو تدعو رفيق تجربته مكرم باشا عبيد إلى تحييد إيمانه المسيحى، بل كان كلاهما شديد الالتزام بقيم دينه وعباداته وأخلاقياته، طمعاً منهما فى رحمة الخالق العظيم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أدى النحاس «باشا» كرئيس حكومة بمنطق السياسى المحترف الذى يعلم أن حسابه يتم أمام شعبه الذى منحه السلطة التى يحكم بها، وبإيمان المسلم البسيط الموقن أن الله تعالى يحاسب المحسن على إحسانه، والمسىء على إساءته، تبعاً للمعايير التى تشتمل عليها العقيدة التى يؤمن بها، وقدمت تجربته فى النهاية نموذجاً فريداً للاستقامة الدينية والسياسية.