بقلم - د. محمود خليل
خلافاً لعثمان بك البرديسي الذي تعود الهرب والاختباء، تعود محمد بك الألفي على الوقوع والقيام، والتعثر والنهوض. منذ أواخر عام 1804 وبدايات عام 1805 أصبح "الألفي" غريما رسمياً لمحمد علي، بعد أن تأكد لديه أن الأخير يسعي للجلوس على عرش مصر.
بعد الهزيمة التي نالها "الألفي" على يد محمد علي وعساكره في "طُرا" أعاد بناء نفسه وقواته من جديد، ومع مطلع عام 1805، تحرك إلى الجيزة مع عدد كبير من الأمراء والعربان، ومجموعة وافرة من المماليك، وعسكر بالمنصورية بالقرب من الأهرام، وأرسل إلى محمد علي ومن التف حوله من المشايخ: عمر مكرم، والشيخ الشرقاوي، يطلب تحديد جهة يستقر فيها هو وأتباعه، فردوا عليه بان يختار الجهة التي يريدها، ورجوه الهدوء حتى تسكن الفتنة التي تضرب البلاد.
وكانت القاهرة على قدميها بالفعل في ذلك الوقت، بعد أن أصر الزعماء الشعبيون المحيطون بمحمد علي على خلع خوشيد باشا أحمد، الوالي الرسمي للبلاد، وتولية محمد علي مكانه، وهو ما رفضه "خورشيد" جملة وتفصيلاً، وقال لهم إن من ولاني هو السلطان العثماني ولا يخلعني غيره.
وحاصر الأهالي القلعة -حيث يختفي الباشا العثمانلي- بتحريض من المشايخ، وأرسل محمد علي عساكره لمنع النزول أو الصعود من وإلى القلعة.لم يكن "محمد علي" يريد، وقد بات قاب قوسين أو أدنى من حلمه باعتلاء سدة الولاية، فتح جبهة جديدة مع محمد "الألفي"، فرأى أن يهادنه، ورد عليه بلطف بأن يختار المكان الذي يريده ليعسكر فيه مع قواته، ورجاء بألا يتحرك حتى تنتهي الفتنة التي أخذت بأطناب البلاد.
من جهته رأى "الألفي" أن من الحكمة ألا يضع يده في هذا المشهد، إلا بعد أن يستوي تماماً، خصوصاً بعد أن تحول الصراع إلى حرب أهلية، وبات المنحازون إلى الوالي العثماني يضربون بالمدافع والرصاص من داخل القلعة، ويضرب المحاصرون لها في الخارج بالمدافع والبنادق أيضاً، وأصبح الأهالي بالفعل جزءاً من الحرب، فتجمعوا حاملين السلاح من كل حدب وصوب حتى يجبروا الوالي على النزول من القلعة، وخلع نفسه من الولاية.
وكان على رأس قيادتهم -كما يشير "الجبرتي"- حجاج الخضري وكان يحمل سيفاً كبيراً في يده، و"ابن شمعة" شيخ الجزارين، ووراءهم عدد ضخم من الأهالي يحمل السلاح، جاءوا من بولاق، ومصر القديمة، وباب الشعرية، والحسينية، والعطوف، وخط الخليفة، والقرافتين، والرميلة، والحطابة.طال الوقت والموقف على ما هو عليه، الوالي العثماني جالس في القلعة ولا يريد النزول منها، والأهالي، الذين يقودهم المشايخ وعساكر محمد علي، عاجزون عن إنزاله، والطرفان يتبادلان الرشق بالمدافع والرصاص.
وقد أدت كثرة القتلى من الطرفين، وحالة وقف الحال التي ضربت الجميع، إلى التوقف والتفكير.
اجتمع الشيخ الشرقاوي والشيخ الأمير ومعهم العديد من المشايخ الآخرين وقالوا: ايش هذا الحال وما تداخلنا في هذا الأمر والفتن؟ واتفقوا على الوقوف على الحياد في صراع محمد علي مع الوالي خوشيد باشا أحمد، وذهبوا إلى محمد علي وقالوا له: أنت صرت حاكم البلدة، والرعية ليس لها مقارشة في عزل الباشا ونزوله من القلعة، وقد أتاك الأمر فنفذه كيف شئت.إنه عدم الصبر على إنفاذ الهدف، والوقوف في منتصف الطريق بسبب عدم القدرة على تحمل كلفة التغيير، وما يؤدي إليه من نتائج داهمة على من يحلمون بالتغيير، إذ لم يكن المشايخ يعلمون وهم يتخذون هذه الخطوة أنهم يتنازلون عن كفاحهم من أجل حكم مستقيم، ليتركوا لمحمد علي الفرصة ليصيغ معادلة حكمه كما يريد. وصلت الأخبار إلى محمد الألفي بالمنصورية بما آل إليه المشهد، ولحظتها قرر التحرك.
a