بقلم - د. محمود خليل
فكرة «المطاطية» لا تفنى ولا تستحدث من عدم فى بر المحروسة. وقد كانت محل نقد شديد القسوة من الشيخ سيد درويش فى واحدة من أشهر أغانيه: «عشان ما نعلا». طأطأة الرأس وخلع ثوب الكرامة من أحط أنواع الأذى الذى يمكن أن يلحق بالنفس، وهو نذير لتحولها إلى آلة تدمير لما حولها. فالنفس «المطاطية» محكومة بمعادلة أساسها: طأطأة الرأس، والانكسار أمام من لا تأمن أذاه أو شره، أو من يملك لها نفعاً أو مصلحة، والتطاول على من تأمن عقابه من أصحاب القلوب النقية الذين يستصعبون مسألة السعى فى الأذى والعزف على أوتار الشر.أصحاب الرؤوس المطاطية لا بد لهم من «رأس كبير» يطأطئون رؤوسهم أمامه. رأس كبير «أفيونته تمللى قال إيه نترصص حواليه»، كما تقول كلمات الأغنية.
والمثير أن الأغنية حدّدت بعد ذلك طبيعة أداء المترصّصين من «المطاطية» مع «الكبير». وأولى سماته هى: «الفشر»، أو كما تقول الكلمات: «تلقاه دايماً منفوخ.. نفشر له طاخ طيخ طوخ». فمجموعة «المطأطئين» يفهمون جيداً أن شغلتهم أن يسمع الكبير منهم ما يود سماعه، وليس ما يتوجب عليه الاستماع إليه. وهو فى الأغلب يحب «الفشر»، أى الكلام المعجون بالكذب، والذى لا يعبّر عن حقيقة الواقع، وكفاءة أدائه، بل يتجه إلى تدبيج مواويل المديح فى حكمته وعبقريته وتفرده.
ولكى يجيد «المطاطى» القيام بدوره، فلابد أن يتّصف بصفتين: «الرك على حبة بولوتيكة وذمة كاوتشوك خربانة». فالمطاطى لا بد أن يجيد لحن القول، يعرف كيف ينتقى وينغم الكلمات التى يقذف بها فى أذن «الكبير». فـ«السياسة» فى نظرية «المطاطية» لا تعنى حُسن تدبير أو إدارة الأمور، بل تتأسس على «النفاق»، و«دهلزة» الكلام والأفعال، والمشاركة مع الكبير فى «أسفنة» من يريد «أسفنته».
«البولوتيكة» وما يرتبط بها من قدرة على «النفاق والدهلزة والأسفنة» لا تكفى وحدها لكى تتكامل شخصية «المطاطى»، فلا بد أن يترافق معها «الذمة الكاوتشوك». ومن الطبيعى جداً أن تكون ذمة «المطاطى» مطاطية أو ستريتش! أى قابلة للتمدّد والانكماش تبعاً للظروف، والحالة الأكثر شيوعاً هى التمدّد، لتبتلع كل ما يمكن أن تصل إليه. و«المطاطى» يجد أن ذلك حقاً له، لأنه يظن أنه بنفاقه وتدليكه لسماسرة المصالح يبذل جهداً، لا بد أن يحصل له على مقابل.
من الجمل الفريدة فى الأغنية، تلك الجملة التى تقول: «ما دام الأمير ملته أنتيكة.. لازم الرعية تكون وحلانة». وجوهر التفرد فيها أنها تلخص نهاية المجتمعات القائمة على المطاطية، حين تصبح «الرعية وحلانة»، لأنها ببساطة لا تعرف أن مشكلتها أنها تغرّد خارج عصرها، حين تستسلم لـ«الأمير الأنتيكة» الذى يديرها بفكر مُتحفى قديم عفا عليه الزمن، وأن المطاطية له تعنى ببساطة سقوط الرأس فى وحل الواقع.
يظن «المطاطى» أن رأسه تعلو بما يحقّقه من مكاسب، ولا يستوعب أن صعوده مسألة موقوتة بصاحب «الرأس الكبير» الذى يدور فى فلكه، وما إن تتبدل الأمور ويأتى جديد يبحث عن طابور مختلف من «المطاطية»، حتى يدرك مطأطئ العهد البائد، أنه عاش غارقاً فى الوحل عمره كله.