بقلم - د. محمود خليل
يذهب "راسم رشدي" مؤلف كتاب "مصر والجراكسة" إلى أن عدد الجراكسة في مصر مع مطلع القرن العشرين لم يزد عن ألف شخص، يعملون في دولاب الدولة، ويمتزجون بالأهالي بصورة كاملة حتى صاروا مصريين قلباً وقالباً.
وأشار إلى عدد من العائلات المصرية التي تنتمي إلى أصل جركسي، ومن بينها عائلات: بيبرس، وقانصوه، وبكتاش، وتيمور، والبرديسي، وذوالفقار، ورستم، وشركس، وجانبك، ولاشين، وشيرين، وقوصون، وغيرها.
وظني أن مؤلف هذا الكتاب حاول أن يهون من أمر هذه الطائفة من المصريين التي كان يردد زعيمها "عثمان رفقي" حتى عهد قريب من بداية القرن العشرين (عام 1882) أن الجراكسة لن يهزموا من قلة، وبالتالي فإن الرقم "ألف" لم يكن يعبر عن الواقع الحقيقي للوجود الجركسي في مصر، بل كان أكثر من ذلك.
والأخطر من مسألة العدد هو التأثير. فقد مثلت العناصر الجركسية المحرك الأهم للسياسة في مصر في ذلك الوقت. فمحمود سامي البارودي الذي ترأس الوزارة أثناء الثورة العربية كان جركسياً، حيث ولد لأب جركسي وأم جركسية.
وأحمد باشا زيور الذي تولى رئاسة الحكومة المصرية (1924- 1926) كان جركسي الأصل. وعلي باشا ماهر الذي تولى رئاسة الحكومة المصرية عدة مرات كان آخرها بعد قيام حركة الضباط في يوليو من أعيان الجراكسة في مصر.
والملفت أن علي ماهر كان رئيساً للديوان الملكي في عصر الملك فاروق، وقد عينه الملك على غير رغبة النحاس باشا رئيس الحكومة حينذاك، وقد أعاد هيكلة أسلوب العمل داخل القصر، واجتهد في تقوية سلطة الملك حتى يتمكن من السيطرة على الحكم، وتبنى نظرية أن الملك يسود ويحكم في الوقت نفسه.
وحين قامت حركة الضباط في يوليو 1952 تم اختياره ليتولى تشكيل وزارة جديدة، صدر مرسوم ملكي بقرار تشكيلها، مؤكد أن الضباط لم يختاروا علي باشا ماهر بسبب أصله الجركسي، مثلما لم يكن سر حماس الزعيم أحمد عرابي لمحمود سامي البارودي ليتولى رئاسة الوزراء خلال أحداث الثورة العرابية، للسبب نفسه (الأصل الجركسي)، المسألة في الأول والآخر مدارها المصلحة السياسية واختيار الشخص الأقدر على التحرك في اللحظات الدقيقة والفارقة.
وقد كان علي ماهر من الخبرة السياسية بحيث استطاع إدارة المشهد بعد عام 1952، وهي إدارة لم تخل من نوع من العداء لحزب الوفد ورموزه.
وقد استغل الضباط العلاقة المتينة التي ربطت "ماهر" بالملك فاروق ليقوم بمهمة إبلاغه بالتنازل عن العرش لولده أحمد فؤاد الثاني، ولم يمكث في الوزارة إلا بضعة أسابيع، أقيل بعدها بسبب خلافه مع مجلس قيادة الثورة على قانون الإصلاح الزراعي.
رأت الثورة أن علي ماهر يبدي تعاطفاً –لا يعجبها- مع كبار الإقطاعيين وملاك الأرض، وكان موقفها هذا طبيعياً بحكم رغبتها في قلب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
كما أن موقف علي باشا ماهر كان طبيعياً أيضاً، حين دافع عن "الطبقة الارستقراطية"، بصورة عكست إيمانه بالفكر الجركسي الأصيل، وقد أدرك الرجل في النهاية أن زمان الليبرالية ولي، وان السلطة سوف تتركز في يد واحدة، وأن الجركسة بمفهومها القديم في طريقها إلى الزوال، وأن نوعاً جديداً من الجركسة سوف يفرض نفسه على الواقع.