بقلم - د. محمود خليل
أيام الوالى محمد على باشا، وبالتحديد عام (1817م) عاشت أسعار السلع فى مصر حالة خروج عن السيطرة، فارتفعت بصورة ضاق الأهالى بها، بعد أن أصبح كل تاجر يسعّر سلعته كما يشاء وكيفما يشاء، وزاد الطين بلة لجوء بعض التجار إلى حبس وإخفاء بعض السلع التى يحتاج إليها الأهالى، حتى تشح فى السوق وتغلو أسعارها.
صرخات الناس من الأسعار وصلت إلى الباشا، فاحتار فى أمره وسأل نفسه: كيف تمكنت من السيطرة على البلاد وخافنى الجميع، بما فى ذلك العربان وقطاع الطرق، فى حين يفعل «تجار مصر» ذلك؟ قرّر الوالى تنحية المحتسب القائم وتولية المملوك مصطفى الكاشف مكانه.
كان «الكاشف» شخصاً حازماً حاسماً، أراد أن يحل المشكلة من جذورها ويؤدب جميع التجار والبائعين داخل الأسواق المختلفة.
بدأ رحلة التأديب بمجموعة من الإجراءات السريعة، فكان يحاسب على أقل هفوة بقطع شحمة الأذن، ويهشّم عظام من يغالون فى الأسعار بـ«الدبوس»، وفرض أسعاراً محدّدة لكل السلع، وأخذ يفتش عن البضائع المخزّنة والمحبوسة ويستخرجها ويوزعها على التجار ويفرض بيعها للزبائن بأسعار محدّدة ليس فيها مغالاة.
أمام هذه الإجراءات قرّر التجار وأصحاب الحوانيت التحدى، فأغلقوا الدكاكين ومنعوا البيع والشراء، وحدثت أزمة بين الأهالى، لكن مصطفى الكاشف لم يأبه بكل ذلك.
وأمام هذا الإصرار اضطر التجار إلى فتح الدكاكين وفرش البضاعة بالأكوام أمامها وبيعها للأهالى بالسعر المحدّد.لم يتوقف المحتسب الجديد عند هذا الحد، فأراد أن يحل المشكلة من جذورها. فبدأ يبحث عن «مربوط» يُنكل به حتى يخاف «السايب» إعمالاً للمثل المملوكى الشهير: «اضرب المربوط يخاف السايب». فتش فى الدفاتر القديمة فقفز على سطورها اسم «حجاج الخضرى».
وهو اسم كبير فى عالم التجارة والبيع والشراء، وكان كبير بائعى «الخضراوات»، وتمتّع بشهرة كبيرة بسبب ما امتاز به من قوة وشجاعة دفعته فى بعض المواقف إلى مواجهة الوالى محمد على نفسه فى وقت كان يرتعد فيه الكبار منه.كان حجاج الخضرى أحد الزعماء الكبار الذى حرّكوا الشارع المصرى المطالب بتولية محمد على للحكم عام 1805، وخلافاً للدور الذى لعبه عمر مكرم، كان «الخضرى» زعيماً عضوياً يشكل جزءاً من النسيج الشعبى، لا يكتفى بإلهابه بالخطب أو الحديث باسمه داخل قصور أولى الأمر، كما كان المشايخ يفعلون، بل يعرف كيف يحشد الجموع ويقودهم لتغيير الأوضاع على الأرض.
وبدأ الشقاق بين «الخضرى» والوالى عندما اتخذ الأخير قراراً بتجريد الأهالى من السلاح، وهو ما لم يرضَ به «الخضرى»، لأنه كان مستهدَفاً من الخصوم الذين واجههم لصالح محمد على.
فرّ «الخضرى» إلى محمد بك الألفى «غريم الوالى»، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن حصل له عمر مكرم على «كتاب أمان» من الوالى، لكن لم يطل به المقام فى العاصمة، فأخذ يتنقل من مكان إلى مكان، واختفت سيرته من الأحداث التى عاشتها مصر خلال النصف الأول من فترة حكم محمد على، لكنه قفز فجأة على سطح الأحداث مع تولى مصطفى الكاشف مهمة المحتسب.
وجد المحتسب الجديد، حين فكر فى تطبيق مثل «اضرب المربوط يخاف السايب»، ضالته فى المسكين «حجاج الخضرى».
قبض «الكاشف» على فريسته بنواحى الرميلة، وساقه العساكر إلى الجمالية، حيث نفّذ فيه حكم الإعدام شنقاً على السبيل المجاور لحارة «المبيضة» وقت السَّحَر، واستيقظ أهالى المنطقة على المشهد المروع، وردّد بعضهم أن «الخضرى» أُخذ دون جريرة واضحة، ولكن كان من الواضح أن المحتسب الجديد كان يحاسبه على مجمل أعماله.