توقيت القاهرة المحلي 16:01:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

طفل من «قنا»

  مصر اليوم -

طفل من «قنا»

بقلم - د. محمود خليل

استقبل المصريون شمس يوم 25 أكتوبر عام 1889، مثلما تعودوا أن يستقبلوا طلعة النهار بالبشر والترحاب والأمل في صبح جديد يغير الله فيه من حال إلى حال. في الوقت الذي كان الشعب الطيب داخل مدينة "قوص" بمحافظة قنا يمشي في مناكب المحروسة يرجو الرزق والستر، ويدعو الله أن يهلك الانجليز الذين احتلوا أرضه منذ 7 أعوام، استقبلت المدينة وليداً جديداً سيكون له شأن -أي شأن- في تحقيق الكثير من أحلام الفلاحين في العيش الكريم، هؤلاء البسطاء الذين تضنيهم الحياة، ويأكل الزمن صحتهم وأعمارهم، دون أن يعترف لهم أحد بأبسط حقوقهم في الحصول على ما يقيم أودهم حتى يواصلوا رحلة الشقاء.

هؤلاء الودعاء الطيبون الذين هدهم الحزن على بلادهم التي تتقلب عليها الأيدي الأجنبية من مماليك وترك وفرنسيين ثم انجليز، دون أن يكون لأيدي أصحاب الأرض نصيب في خيراتها. استقبلت إحدى الأسر المصرية القبطية المعروفة بثرائها ووطنيتها العتيدة ومكانتها الكبيرة داخل صعيد مصر، وهي عائلة جرجس ميخائيل عبيد، طفلاً اسمه "وليم مكرم".

مثل كل الأطفال في ذلك الزمان تفتحت عين مكرم عبيد على البيئة الخلابة المحيطة به التي رسّخت بداخله حب المكان الذي ولد فيه، وشهد سعادات طفولته، والمكان هنا شاعري للغاية، ما أكثر ما قدم أدباء وشعراء ذاع صيتهم وتمددت حبال شهرتهم داخل بر المحروسة، فمحافظة "قنا" كانت في ذلك الوقت مضخة كبرى من مضخات الفن والأدب إلى درجة أن كاتباً كبيراً بحجم العقاد، وصفها بـ"المدرسة القنائية" التي لم تتوقف في لحظة عن تقديم المبدعين إلى مصر، كانت "قنا" في ذلك الوقت أشبه بالمصنع القادر على إنتاج عناصر القوى الناعمة التي امتازت بها مصر داخل الإقليم الذي استقر به شعبها.

مثل كل الأطفال داخل الأسر المصرية (مسلمة ومسيحية) في مصر كان "مكرم" -في طفولته ومراهقته- يسمع من الكبار عن الأحداث الفارقة التي عاشتها مصر في ذلك الوقت، ولعل أخطرها وأهمها ما اقترن بتولي "بطرس باشا غالي" رئاسة وزراء مصر، وحادث الاغتيال الذي تعرض له على يد شاب من شباب الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل. يصف "عباس حلمي الثاني: خديوي مصر في ذلك الوقت بطرس باشا قائلاً: "يمكنني أن أقول أن الرئيس الوحيد لمجلس النظار والذي عمل بدون توقف، وفي أثناء كل الوقت الذي كان فيه ناظراً، ومن أجل خدمة قضية بلاده، وأمير البلاد، هو بطرس باشا غالي، ولم يرتكب سوى خطأ واحد في حياته وهو دنشواي".لم تكن مصر في ذلك الوقت تفرق بين مواطنيها على أساس الهوية الدينية، بل على أساس القدرة والكفاءة، والعطاء للوطن، والإخلاص للقضية الوطنية، وحين اغتيل "بطرس غالي: عام 1910 لم تكن هناك أية دوافع طائفية وراء ذلك، بل دوافع ناتجة عن اختلاف الرؤى ووجهات النظر فيما يتعلق بخدمة قضية الوطن.

شاهد "مكرم عبيد" وهو في صدر شبابه شخصية قبطية أخرى تعتلي كرسي رئاسة الوزراء في مصر، حين تولى هذا المنصب يوسف باشا وهبة، والملفت أن الرجل تعرض هو الآخر لمحاولة اغتيال على يد شاب قبطي، مما يمنحك دليلاً على أن الدوافع الوطنية كانت حاضرة في أشد مشاهد السياسة قسوة في ذلك الوقت، في الوقت الذي اختفت فيه مسألة التمييز الطائفي بشكل يثير الإعجاب.

عاصر "مكرم عبيد" -في مراحل عمره الأولى- صعود العديد من الشخصيات القبطية إلى أرفع مواقع المسئولية، بما فيها رئاسة وزراء مصر، لكن أياً من هذه الأسماء لم تحظ بما حظى به مكرم عبيد في الوجدان المصري، إذ يظهر -خلافاً لهم- زعيماً شعبياً من طراز فريد، لم ترتبط شهرته أو شعبيته ومحبة الناس له بوجوده في موقع مسئولية، قدر ما تعلقت بما امتلكه من قدرة على ترجمة الأحلام الوطنية إلى واقع يمشي على الأرض، والثقافة الاجتماعية السائدة إلى أساس يرتكن إليه الزعماء والذوق الشعبي العام إلى خطاب سياسي رفيع المستوى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طفل من «قنا» طفل من «قنا»



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024
  مصر اليوم - المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات
  مصر اليوم - ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 07:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
  مصر اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 08:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 03:29 2020 السبت ,14 آذار/ مارس

بورصة تونس تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 14:03 2020 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أول تعليق من محمد منير بعد وفاة مدير أعماله وزوج شقيقته

GMT 06:49 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عزل ترامب

GMT 11:48 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

هاشتاج أمينة خليل يشعل مواقع التواصل الاجتماعي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon