بقلم - د. محمود خليل
يصح النظر إلى وهب بن منبه كأول محترف لوظيفة الوعظ وسرد الحكايات فى تاريخ الإسلام. وهى تلك الوظيفة التى تمددت وتعمقت خلال المراحل المختلفة للتاريخ الإسلامى، خصوصاً فى العصرين الأموى والعباسى، حيث انتشر من كان يطلق عليهم حينذاك «الرواة والقصاصون» فى الأسواق وداخل المساجد، يعظون الناس فى قوالب قصصية.
كان هؤلاء يؤدون وظيفة أشبه بوظيفة «الدعاة والوعاظ» الذين تحتشد بهم اللحظة المعاصرة، وجلهم يجد أصلاً وجذراً له، لدى تلك الشخصية الخطيرة فى تاريخ الإسلام والمسلمين، شخصية «وهب بن منبه».
يقول «ابن كثير» فى تعريفه بـ«وهب بن منبه»: «تابعى جليل وله معرفة بكتب الأوائل، وهو يشبه كعب الأحبار، وله صلاح وعبادة، ويُروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ، قال الواقدى: توفى بصنعاء سنة عشر ومائة، وقال غيره بعدها بسنة وقيل بأكثر، والله أعلم، ويزعم بعض الناس أن قبره بقرية يقال لها عصم ولم يجد لذلك أصلاً.
لم يكن لابن كثير أن يذكر «وهباً» دون الإشارة إلى كعب الأحبار الذى تناولت دوره فى تشكيل خطاب التراث الإسلامى الأسبوع الماضى، فـ«وهب» يشكل الضلع الثانى من أضلاع المثلث الذى ضم كلاً من «كعب» و«وهب» و«عبدالله بن سلام»، بما لهذا الثالوث من أدوار محسوسة فى تشكيل بنية التراث الموروث عن الأجداد.
ثالوث الرواة هؤلاء ستجد أسماءهم حاضرة لدى العديد من الكتاب وهم يحدثونك عن الأسماء المتهمة بتسريب الكثير من الأفكار والمقولات التى تتعجب لها ومنها حين تقرأها داخل أغلب كتب التراث الإسلامى، فيما اصطلح على تسميته بـ«الإسرائيليات».
وليس ثمة من شك فى أن أهمهم على الإطلاق هو كعب الأحبار. تلك الشخصية العجيبة فى كيفية وتوقيت اعتناقها الإسلام، الغريبة فى رواياتها الملفتة لقصص الأنبياء، وإصرارها على حكاية كل شىء بالأرقام! (ركب مع نوح فى سفينته 72 نفساً).
أخبار عديدة رواها كعب الأحبار صدقها بعض معاصريه، قناعة منهم بأنه يملك الحقيقة المطلقة بسبب ما يكتنزه من أوراق التوراة، وتابعهم فى تصديقه أجيال متعاقبة من المسلمين حتى يوم الناس هذا، لكن ذلك لم يمنع بعض الصحابة من فضحه ومواجهته، أبرزهم كان «أبوذر الغفارى».
يمكنك أن تجد الكثير مما تقرأه عن شخصية «كعب الأحبار»، أما «وهب بن منبه» فإن المكتوب عنه قليل قياساً إلى «كعب»، رغم أن الأخير كان صاحب مدرسة فى الخطاب الوعظى، ما زال أثرها جارياً فى الواقع الذى نعيشه حتى اللحظة.
فوهب بن منبه ليس مؤسساً وفقط لوظيفة «الوعاظ والحكائين» التى يحترفها البعض فى حياتنا المعاصرة، بل يصح النظر إليه أيضاً كمؤسس لمجمل الخطاب الذى يرتكز عليه عمل هؤلاء.
ثلاث ثنائيات اعتمد عليها خطاب «الوعظ والحكايات» لدى «وهب»: أولها ثنائية العابد والشيطان، وثانيها ثنائية الحور العين والإنسان، وثالثها ثنائية الموت والحياة.
واعتمد الجد «وهب» على نفس الأداة التى يركن إليها أحفاده من الوعاظ والدعاة الحاليين، وهى «رواية القصص» بغض النظر عن اتساقها أو تناقضها مع العقل أو المنطق.