بقلم - د. محمود خليل
وشك أصفر ليه يا عكر.. وروحك هتطلع يا كاذب؟.. لم تشتهر عبارة إذاعية خلال فترة الخمسينات، كما اشتهرت هذه العبارة والتي جاءت على لسان القاضي الذي فصل بين "عوف الأصيل" و"سيد طبوش العكر" في الاتهام الكاذب الذي وجهه الثاني إلى الأول بسرقة عقد مملوك له، فلما فضح الله كذبه اصفر وجهه، أنشد القاضي: سبجان مظهر الحق وقال له ما قال.. لعلك تتذكر الصورة الغنائية الجميلة: "عوف الأصيل".
حكاية الألوان واحدة من أشهر الحكايات مع الوجوه المصرية، وهي تنهض كدليل جديد على نفي صفة "الصمت" عنها، فهي تتلون بشكل يعبر عن مشاعرها أو إحساسها بالمواقف المختلفة التي يعيشها أصحابها.
مؤكد أنك سمعت أحدهم يصف غيره في موقف معين بأن "وشه اصفر واخضر"، وهو يشرح حالة الاضطراب التي أصابته.
وتعتبر الثقافة المصرية أن "تصفير الوجه" من المعايب، والمقصود بها التسبب في إحراج الشخص، والقيم الموروثة عن الآباء والأجداد تقول في مثل هذه الأحوال أن من يعيب على شخص أمراً، لابد أن يسر له فيما بينهما، دون أن يفضحه أمام الناس.
ولو أنك رجعت إلى الصورة الغنائية "عوف الأصيل" فسوف تجد أن بطل القصة "عوف" لم يصفر وجه "طبوش العكر"، حتى حين اتهمه كذباً بالسرقة، فقد طلب من القاضي أن يسر إليه بكلمة فيما بينهما، وانتهى الحوار إلى قول "العكر": "قلة أصلي هي اللي خلتني أعمل كده.. عاوز حاجة تاني؟"، لكن الله شاء تصفير وجه "العكر" حين انفضح كذبه.
الملفت أن مسألة عدم الإحراج والبعد عن تصفير وجوه الآخرين تعطلت كثيراً منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فالوجه المصري أصبح مصفراً، ولم يكن الصفار -في أحوال- يستحيل إلى خضار، كما كان يردد الأجداد، بل إلى سواد.
ولو أنك بحثت -على سبيل الاستئناس- في عناوين وموضوعات الأفلام العربية التي راجت خلال هذه الفترة، فسوف تجد أن كلمة "فضيحة" كانت حاضرة فيها بشكل ملحوظ.
من ذلك على سبيل المثال: فيلم "فضيحة في الزمالك"، وفيلم "البحث عن فضيحة".
أصبح أسهل شىء بالنسبة للكثيرين هو إحراج غيرهم، بل تعمد إحراجهم، وأصبحت الألفاظ المحرجة التي تحمر لها وجوه المهذبين حاضرة في الأفلام والمسرحيات، وزحفت بتؤدة نحو الدراما التليفزيونية وأصبحت تدخل البيوت، وامتدت أيضاً إلى لغة الإعلانات، وأمست الأسئلة التي يطرحها الصغار وتحمر لها وجوه الآباء والأمهات شائعة.
رحلة الألوان التي يتلون بها الوجه المصري كان الأصل فيها الاحمرار الناتج عن الخجل، وانتهت إلى الصفار، حين أصبحت تنطق بالحرج، وجلد الآخر، وتحقير الذات، وغير ذلك من أمور تصفّر الوجه.
الأخطر أن خداع الآخرين والنصب عليهم صار سلوا، بان أثره في المعبرات الثقافية مثل المسلسلات والأفلام، وأتخمت صفحات الحوادث بأخبار تنقل حيل النصب وأحواله.
ونسي المصريون مثلاُ كان حاضراً في المخيلة الشعبية لسنوات يربط بين الوش والغش، يقول صانعه "قل له في وشه ولا تغشه"، وكأن لسان حالهم أصبح "غشه في وشه".