بقلم - د. محمود خليل
عاشت السيدة زينب، رضى الله عنها، آلام أبيها وأحزانه. وكان قلب «علىّ» الأب وشقيقيها «الحسن والحسين» معلقاً بزينب الصبية التى عرفت كيف تقوم بدور الأم فى حياة شقيقيها، وهى صبية يافعة، وحبيبة أبيها ومكمن سره، صاحبة القلب الكبير والعقل المتفتّح الذى اتسع فى كل المواقف، ليُفضفض إليها الأب بلواعج نفسه وما يعانيه من خذلان من حوله.كانت الابنة تلمح الحزن والأسى فى عين أبيها، وهو يرى طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة يقفون ضده، بل ويحشدون لحربه، فاضطروه إلى الوقوف فى موقف ضدهم، لم يكن يحب أن يقفه، تابعت معاناته من ألاعيب معاوية وعمرو بن العاص فى «صفين»، وانشقاق جيشه عليه، وتلمس حزنه الشامخ كرجل لا يفوقه أحد عقلاً أو ذكاءً، لكنه يأبى أن يستخدمه فى الكيد والتآمر كما يفعل خصمه، لأنه فارس عرف كيف يعيش بأخلاق الفروسية.كأنى بالسيدة الجليلة وهى تقاسى اللوعة على أبيها «علىّ» وتشاركه أحزانه، وتدعو ربها أن يحفظه، رغم إدراكها بعقلها الكبير وفكرها العميق أن أطرافاً عدّة قد توافقت على إقصائه عن مقعد الخلافة.. كيف لا وهى التى سمعت أمها عدة مرات تتحدث عن موقف قومها من أبيها بعد وفاة النبى، وكيف رأت «فاطمة» أنه كان الأحق بولاية الأمر. وربما تذكّرت السيدة زينب فى هذه اللحظات ما عاينته فى طفولتها، حين دخل عمر الخطاب ليأخذ البيعة من «علىّ» لـ«أبى بكر» بنوع من الغلظة التى دفعت «فاطمة» رضى الله عنها وأولادها إلى الصراخ.يقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «لما كانت الليلة التى قُتل فى صبيحتها (يقصد علياً بن أبى طالب)، قلق تلك الليلة وجمع أهله، فلما خرج إلى المسجد صرخ الأوز فى وجهه، فسكتوهن عنه، فقال ذروهن فإنهن نوائح».ربما كانت السيدة زينب من بين نساء البيت اللائى اجتمعن فى ليلة استشهاد أبيها، وربما تكون أول من بادرت إلى إسكات الأوز حين صرخ، ثم سمعت من أبيها هذا القول: ذروهن فإنهن نوائح!.. ماذا كانت مشاعرها يا تُرى وهى تسمع هذا الكلام؟لم تمضِ سوى لحظات على هذا المشهد حتى عاد الأب «علىّ» إلى المنزل من جديد، محمولاً على أيدى الرجال بعد أن طعنه عبدالرحمن بن ملجم.. تُرى كيف استقبلت السيدة الجليلة هذا الموقف؟كأنى بها وهى تكتم دموعها، ناظرة فى عين أبيها وهو يغالب آلامه ليوصى بكلماته الأخيرة إلى ولديه الحسن والحسين. لحظة استشهاد الأب كانت من أصعب اللحظات التى عاشتها السيدة زينب، رضى الله عنها، وقد تعمّق الحزن فى نفسها الشريفة أكثر، حين كانت تنظر فى عينى شقيقيها الحسن والحسين، فقد كانت تعلم أن الحزن قدرها، وأن الدائرة لا بد أن تكتمل، وأن من ترخص فى سفك دماء الخليفة لن يتورّع عن أن يولغ فى دم أولاد الأكرمين، أحفاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.مقتل الخليفة على بن أبى طالب مثّل الحلقة الأولى فى سلسلة أحزان متصلة الحلقات عاشتها السيدة زينب حتى قابلت وجه ربها، رضى الله عنها وأرضاها.
a