بقلم - د. محمود خليل
لحظات عصيبة عديدة مر بها «النحاس باشا» لكنه تمكن من عبورها بإيمانه وذوبانه فى المزاج الدينى الحاكم للمصريين. وليس هناك أصعب على الإنسان من لحظة يواجه فيها الموت. وما أكثر ما قابل الزعيم الشعبى هذه اللحظة، حيث تعددت محاولات اغتياله؛ مرة بالرصاص، ومرات بالمتفجرات، ونجا من كل محاولة منها بصورة تثير العجب.
واحدة من هذه المحاولات قادها الرئيس أنور السادات -رحمه الله- وحكى تفاصيلها فى كتابه «البحث عن الذات»، حين حاول مع مجموعة من أعضاء جماعة «الحرس الحديدى»، التابعة للملك، اغتيال «النحاس باشا». وكان ذلك فى ذكرى مولد النبى، صلى الله عليه وسلم، وقد تعود الزعيم أن يلقى بهذه المناسبة خطبة فى النادى السعدى. تربص «السادات وحسين توفيق» بسيارة الزعيم، وبمجرد تحركها من بيته بجاردن سيتى ألقى «حسين توفيق» قنبلة يدوية عليها، ولكن حدث فى اللحظة نفسها أن تباطأت السيارة بسبب اعتراض ترام مسرع لها، فانفجرت القنبلة ولكن بعيداً عن سيارة «النحاس». يقول «السادات»: «كان فارق السرعة ست ثوان لا أكثر.. لكنها كانت كافية لنجاة النحاس».
كان «النحاس» قد ناهز الستين من عمره، حين تعرض لهذه المحاولة، وكان يعانى من أزمة سياسية كبيرة بسبب توليه رئاسة الحكومة على أسنة حراب الإنجليز، حين حاصرت دباباتهم قصر الملك فاروق، وأجبرته على إصدار تكليف للنحاس باشا بتشكيل الحكومة (حادثة 4 فبراير 1942)، وهو أمر أغضب الملك كثيراً، وغضب معه العديد من ضباط الجيش، وعلى رأسهم ضباط الحرس الحديدى، الجماعة التى كان يرعاها ويمولها الملك، وتقوم بالاغتيالات السياسية لحسابه.
وقد عبر الضباط عن رفضهم لهذا الإملاء الإنجليزى من خلال مظاهرة تحركوا فيها إلى قصر عابدين، هتفوا فيها باسم الملك وأعلنوا عن ولائهم له ودفاعهم عنه، وعبروا بالتوازى عن غضبهم من «النحاس»، ويومها حياهم الملك من شرفة القصر، كما يحكى أنور السادات فى كتابه «البحث عن الذات»، ثم كانت محاولة التخلُّص من الزعيم عبر إطلاق قنبلة يدوية عليه، يوم الاحتفال بمولد النبى، صلى الله عليه وسلم، وشاء الله أن ينجو منها.
يحكى «النحاس باشا» فى مذكراته عن محاولة اغتيال أخطر وأشد عنفاً تعرض لها بعد ذلك، وتحديداً فى عام 1948، يقول فى تفاصيلها: «فى ليلة مظلمة وساعة متأخرة وأنا نائم فى فراشى بوغت بصوت انفجار هائل مدمر وقع على منزلى وهدم أركانه، وأطار زجاج النوافذ، وهدم الجدران، ووقعت قنابل الديناميت على المنزل فى كل مكان، فاستيقظت مذعوراً وسمعت صراخ حرمى، فذهبت إلى حجرتها فوجدت شظايا الزجاج قد ملأت يديها، ونظرت إلى الدور الأول للمنزل فإذا بى أفاجأ ببواب المنزل وأسرته صرعى تسيل دماؤهم وتفارقهم الحياة».
بإمكانك أن تستخلص عمق الإحساس الإيمانى لدى «النحاس باشا» عبر تأمل هذه الكلمات التى علَّق بها على هذا الموقف العصيب الذى تعرض له. يقول «النحاس»: «كانت قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمة جلاله ورحمته بعبد يعرف له حقه ويؤدى واجبه لم تطلق فى عهده رصاصة على وطنى ولا سعى فى ضرر إنسان ولا فرط فى حق من حقوق ربه ولا حقوق وطنه. وشاءت قدرة الله أن تنزل قطعتان كبيرتان من الديناميت الذى نسف المنزل على «الناموسية» التى كنت أنام تحتها وأمامى كتاب الله على «الكمودينو»، سقطت هاتان القطعتان فتعلقت إحداهما بخيط الناموسية الرقيق ولم تسقط على رأسى ولم تود بحياتى، ولو سقطت لأصابتنى فى مقتل».
وصدق الله العظيم حين يقول: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».