بقلم - د. محمود خليل
ربع قرن من الزمان قضاها النبى، صلى الله عليه وسلم، زوجاً للسيدة خديجة.كان حزنه عميقاً على رحيل السيدة التى قضى معها زهرة شباب عمره، حتى بلغ الخمسين، لكن الحياة مضت، ووضعت الأقدار فى طريقه سودة بنت زمعة، فتزوجها فى سياق تجلّت فيه إنسانيته الفياضة.
حينها كانت «سودة» أرملة مسلمة مات عنها زوجها عمرو بن السكران، الذى آمن مع زوجته برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، واشتد أذى المكيين لهما، فى سياق الحملة التى خاضوها لإرجاع من آمن إلى حظيرة الشرك، فهاجرا مع من هاجر من المسلمين فى هجرة الحبشة الثانية، استقر المقام بهما هناك حيناً، ثم عادا إلى مكة بعد أن سمعا عن إسلام عمر بن الخطاب ووقوفه ضد الاضطهاد الذى يُمارس على الجماعة المؤمنة. شاء الله أن يموت عمرو -زوج سودة- خلال رحلة العودة، فدخلت مكة وهى أرملة.
رقّ قلب النبى، صلى الله عليه وسلم، لحالها، ووجد فيها إنسانة من معدن نفيس، لديها أتم الاستعداد للتضحية فى سبيل ما تؤمن به، والتضحية من أجله، فأمر الهجرة من مكة إلى الحبشة لم يكن سهلاً على امرأة فى ذلك الوقت، إلا إذا كانت تتمتّع بنفسية مناضلة مقاتلة.
هذه الروح التى امتازت بها «سودة» كانت كافية بالنسبة للنبى كسبب للاختيار، لم تكن تتمتع بما يرجى فى المرأة من مال أو جمال أو حسب أو نسب، لكن النبى اختارها لروحها المؤمنة ووفاءً لذكرى واحد من صحابته.
العلاقة بين النبى وصحابته كانت وطيدة، وكان صلى الله عليه وسلم يسعى إلى تعميقها عبر آلية المصاهرة، وكانوا من جهتهم يسعون إلى نيل هذا الشرف بكل الطرق الممكنة.
فالشيخان أبوبكر وعمر كانا أقرب المقربين إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، ومن أشد الصحابة حرصاً على مصاهرته، وكلاهما تقدم لخطبة فاطمة بنت النبى، وتزوج عثمان بن عفان من رقية بنت النبى، وبعد وفاتها تزوج من شقيقتها أم كلثوم. وفى المقابل كان النبى حريصاً على مصاهرة أصحابة فتزوج من عائشة بنت أبى بكر، ثم من حفصة ابنة عمر بن الخطاب.
علاقات المصاهرة داخل المجتمعات القبلية تعد -كما تعلم- أداة أساسية لتوثيق العلاقات العائلية وربطها برباط وثيق، لذلك فقد حرص النبى على مصاهرة أصحابه، وحرصوا على مصاهرته.
وما أطرحه فى هذا السياق هو مجرد تفسير لوضعية المؤمنين داخل المجتمع المكى، لأن فكرة القبيلة ذابت بعد ذلك فى إطار رباط «الصحبة الإيمانية»، وعندما هاجر النبى إلى المدينة المنورة شكّل رباط الصحبة الإيمانية الأساس الذى ارتكزت عليه العلاقات داخل المجتمع الجديد، فانصهر المهاجرون والأنصار فى بوتقة واحدة.
وداخل المدينة المنورة تعدّدت زيجات النبى، صلى الله عليه وسلم، وكانت البداية الزواج بعائشة بنت أبى بكر رضى الله عنها. وهى الزيجة التى أثار المغرضون والمرجفون الكثير من اللغط حولها، ساعدهم على ذلك عدم النظر بوعى إلى ما حكته كتب التراث حول تفاصيلها.