بقلم - د. محمود خليل
واقعة طريفة يحكيها «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» بطلاها الوالى محمد على والأمير المملوكى عثمان البرديسى.
فقد قررا التآخى، فاجتمعا معاً فى يوم وجرح كل منهما نفسه ولحس من دم الآخر.
حدوتة التآخى بالدم كانت شائعة فى ذلك الوقت، فكل اثنين يريدان التعاهد على الإخلاص والصدق والوفاء بالعهد كانا يفعلان هذه الفعلة، ويبدو أن المسألة تمثل جزءاً من الثقافة الموروثة التى ما زالت تسكن فى أخاديد العقل المصرى، والدليل على ذلك الاختراع الذى ذهب إليه بعض الشباب والمراهقين، بابتداع طريقة حديثة للزواج، هى طريقة الزواج بالدم، بأن يجرح كل من الشاب والفتاة إبهام اليد اليسرى لكل منهما (القريب من القلب) ثم يلتحم الإبهامان معاً حتى يختلط الدم، ويصبحان بذلك زوجين.
وقد شاعت هذه التقليعة بين الشباب خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وكما مثلت طريقة الزواج بالدم إحدى الطرق التى يخدع بها الشباب الفتيات، فقد جسدت مسألة التآخى بالدم إحدى طرق اللعب التى ابتكرها محمد على للإيقاع بمنافسيه، خصوصاً من كبار رجال المماليك، وعلى رأسهم الأمير عثمان البرديسى.
أصبح محمد على والبرديسى بعد «لحسة الدم» لا يفترقان، وساعد جنود محمد على «البرديسى» فى مطاردة غريمه الشهير محمد بك الألفى، وهو الجميل الذى حفظه له الأمير المملوكى، لكن سرعان ما طلب «اليونانى» الداهية رده، فوجهه إلى فرض ضريبة عبارة عن أجرة سنة على البيوت والدكاكين، يتم دفعها مقدماً، على أن يشارك المالك بنصفها والمستأجر بالنصف الآخر، وقرر عليهم هذه الضريبة لمدة ثلاث سنوات متصلة.
لم يرض الأهالى بالطبع عن القرار وثاروا ضده، وأثناء ذلك بث محمد على رجاله بين الناس يرددون أن «البرديسى» هو من أصدره، وتبرأ محمد على ومن معه منه، وساهمت عصبية «البرديسى» الظاهرة فى إقناع الأهالى بصدق ما يقال، فقد ردد بعض الأهالى أنهم رأوا «البرديسى» خارجاً من بيته متجهاً إلى مصر القديمة، وهو يلعن أهل مصر ويقول: «لا بد من تقريرها -يقصد الضريبة- عليهم ثلاث سنوات، وأفعل بهم وأفعل حيث لم يمتثلوا لأوامرنا»!
فى المقابل أخذ محمد على يهدئ الأهالى، ويعدهم بالوقوف بصلابة ضد تطبيق هذه الضريبة، ولم يكتف بذلك بل أرسل جنوده يطاردون عثمان بك البرديسى ومن معه، وأطلق الرصاص على الأمير، لكنه أفلح فى النجاة، وتمكن من الفرار من قلعة الفرنسيس التى كان يسكنها فى «تل العقارب»، وعاد إلى مصر القديمة، لكن جنود محمد على تتبعوه، ونقبوا جداراً فى حديقة منزله، ثم اقتحموه، لكن «البرديسى» تمكن من الفرار من جديد، ومعه الكثير من المماليك.
أطلق محمد على جنوده يطاردون فلول الملتفين حول عثمان البرديسى، وينهبون بيوتهم، ويستولون على ممتلكاتهم، وينكلون بهم أشد التنكيل.
يفسر الجبرتى ما حدث للماليك بأنه ذنب ما فعلوا مع أميرهم الألفى الكبير، بعد أن استغلوا فرصة سفره إلى إنجلترا ليرتب للمماليك السيطرة على مصر، بعد خروج نابليون منها، فانقلبوا عليه وقتلوا أتباعه، واتخذوهم أعداء وأخصاماً من غير جرم ولا سابقة عداوة معهم إلا الحسد والحقد وحذراً من رئاسته عليهم.