بقلم - د. محمود خليل
المصريون ميّالون إلى محبة الشخصيات التى تجيد مغازلة أذنهم. فعبر تاريخهم احتلت الشخصيات التى تجيد الخطابة مكانة خاصة لديهم. على رأس الخطباء الذين احتلوا مكانة خاصة فى الأذن المصرية -وكذا العقل والوجدان الجمعى- سعد باشا زغلول، زعيم زعماء ثورة 1919، النحاس باشا أيضاً كانت له مقدرة على الخطابة، لكن الواضح أن مكرم باشا عبيد فاقه فى هذا المجال.
والأصل فى إجادة الخطابة هو التكوين التعليمى والثقافى والفكرى، وقد نال مكرم عبيد تعليماً رفيع المستوى، سواء فى المرحلة التى قضاها فى المدارس فى مصر، أو خلال رحلة تعليمه فى إنجلترا، ثم فرنسا.
رحلة التعليم ساهمت فى تكوين مكرم عبيد الثقافى والفكرى بصورة لافتة، أكسبته مهارة فى مخاطبة أبناء كل ثقافة، تبعاً لوعيه بأفكارهم وأساليب تفكيرهم.العمل بالسياسة أيضاً يطور ملكة الخطابة لدى صاحبه، وتتعمق المسألة أكثر إذا أتيح لرجل المشاركة فى العمل الدبلوماسى، وقد جمع مكرم باشا ما بين الحسنيين: السياسة والدبلوماسية.تعالَ بعد ذلك إلى أهم مهارة لا بد أن تتوافر فى الخطيب، وهى إجادة التعبير باللغة التى يتحدث بها الجمهور، والوعى بما يحرك عقلهم ووجدانهم عند الاستماع والعزف على أوتاره.
واللغة هنا هى اللغة العربية، أما الجمهور فهو الجمهور المصرى الذى تطربه اللغة النابضة المعبرة المؤثرة.وقد كان حظ مكرم باشا عبيد من إجادة اللغة العربية كبيراً، وتدفقت ملكتها داخل عقله ووجدانه وفوق لسانه بسخاء كبير، أما وعيه بجمهور مستمعيه من أبناء الشعب المصرى فحدّث ولا حرج، لأن الرجل كان ذائباً فى الشعب الذى خرج منه ذوباناً كاملاً.
حرص «مكرم باشا» على تطوير ملكته اللغوية بشكل متواصل ومستمر. تحكى منى مكرم عبيد -ابنة شقيق مكرم- أنه استغل فترة وجوده فى المنفى فى سيشيل فى إثراء لغته العربية واستغل فى ذلك وجوده مع عاطف بركات، الذى كان فيما مضى ناظراً لمدرسة القضاء الشرعى، وقد ساعد «مكرم» كثيراً، وعلى مدار عامين، فى تأكيد فصاحته فى اللغة العربية، حتى قدر له أن يصبح واحداً من أشهر الخطباء فى تاريخ الحياة السياسية المصرية.
يقول فؤاد سراج الدين واصفاً المهارة الخطابية لمكرم باشا: «كان خطيباً يشار إليه بالبنان، بل كانت الجماهير تصر على سماعه فى كل مناسبة وحفل سياسى، وكان يسامرهم ببلاغة وقراءة القرآن وحفظ بعض آياته، وكان يستشهد ببعضها فى خطبه، مما كان يزيدها قوة وروعة».
حتى يوم الناس هذا ما زال الكثيرون يرددون عبارات نحتها مكرم باشا عبيد، لعل أبرزها قولته الشهيرة: «نحن مسلمون وطناً مسيحيون ديناً»، وهى عبارة تعكس وعياً رائقاً للفارق بين معتقد الإنسان وهو مسألة فردية وعلاقة تربط بين العبد وخالقه، والله تعالى رحيم بكل عباده، مهما اختلفت معتقداتهم، وبين الثقافة السائدة، وهى مسألة اجتماعية لا بد أن يستوعبها من يمارس عملاً عاماً.
لم يكن مكرم باشا يجد غضاضة فى أن يستدل على ما يريد من معانٍ بآيات من القرآن الكريم. وفى إحدى المرافعات سأله أحدهم: أنت قبطى وتردد آيات من القرآن؟ فأجاب: أنا أقول بما تؤمن به المحكمة.
رحم الله سيد الخطباء مكرم باشا عبيد.