نوبة سعال تجتاح «آدم الصغير».. يُردد بصوت واهن: صدرى يتمزّق.. تشخص أمامه صورة أمه، وهى تقول: لقد حذرتك «التدخين سوف يأكل رئتيك.. كل خلية تفسد تحاول إفساد الخلايا التى تجاورها.. وهى تنظر إلى منفضة السجائر: كل هذه الأعقاب؟».. يظهر له صورة جده آدم الكبير وهو يقول: ويل للأعقاب من النار.. اللهفة تشعل النار فى القلب الموجوع.. فما الحال إذا قضت المشيئة بأن تكون حياة إنسان وسط النار؟
- الشاب (وهو يسعل): يا جدى أنا أحدّثك عن السعال.
- الشيخ (وهو يضع يده على صدر آدم الصغير): يهدأ بإذن الله.
- الشاب: أخيراً أشعر ببعض الراحة.. ياااااااه.. لحظة واحدة من ضيق النفس تُنسى البنى آدم سنين طويلة من نعمة التنفس الحر.
- الشيخ: بدأت تتعلم من التجربة.. تماماً مثلما تعلم جدك مصطفى من تجربته.. انظر: يظهر مصطفى «ابن حسن الترجمان» جالساً فى داره وحوله مجموعة من الأهل والأحباب.. الحزن يكسو وجهه.. يُردّد عبارة واحدة فى مواجهة السؤال الفضولى المتكرر من جانب المحيطين به: «أين اختفى الترجمان».. «لا أعرف».. شوهد أمام بوابة القلعة، وعند مدخل «سراى الحلمية» يسأل البوابين والحرس عن أبيه.. وأين يا تُرى ذهب؟.. ولا مجيب.. حتى من كان لديه علم بما جرى.. طوى صدره على ما يعلمه خوفاً من مصير مجهول يشبه مصير «الترجمان».
فى ليلة من ليالى القهر على الزوج الغائب والأب المفقود.. جلس مصطفى إلى جوار أمه الشامية صامتين، وفى قلبيهما من الحزن ما فيهما.. قال مصطفى وهو يتشبّث بقشة أمل:
- مصطفى: اسمعى يا أمى.. سأذهب إلى سراى ولى النعم غداً.. وأقفز من فوق سورها.. وأرتمى تحت أقدام الوالى سعيد باشا.. وأستحلفه بالله أن يساعدنا فى معرفة أى شىء عن أبى.
- الأم: لا تحلم يا ولدى بأن يدلك اللص على المكان الذى يخفى فيه سريقته.- مصطفى: ماذا تقصدين يا أمى؟
- الأم: لا أقصد شيئاً.. الله تعالى عليم بالسر وما هو أخفى.. استرح يا ولدى.. وفوض الأمر إلى الله.. ولا تسأل أحداً سواه.
- مصطفى: تريدين منى أن أترك أبى هكذا ولا أبحث عنه؟.- الأم: أبوك بين يدى الله.
- مصطفى: لا تقولى ذلك.. حتى ولو كان.. أليس من واجبى أن أعرف أين ترقد عظامه؟.. نسيتى أن أبى قرّر ألا يعود إلى المغرب بلده لما دُفن جدى هنا فى البر؟.
- الأم (باكية): يا ولدى كل هذا لا يفيد.. إذا قضت إرادة الله أن تعثر على قبر أبيك فسوف يحدث هذا دون بحث منك.. وإذا قضت مشيئته بغير ذلك فسيظل مجهولاً مهما بحثت.. المهم الآن أن تختار عملاً لنفسك وتبدأ رحلة الحياة.
- مصطفى: سأعمل فى نفس وظيفة والدى.. لقد علمنى الفرنسية حتى أتقنت الترجمة عنها.. سأطلب العمل فى بلاط الوالى.
- الأم: إياك والسلطان.. إياك وبلاط السلطان.. كفى الذى دفعه أبوك ثمناً لهذا القرب.
- مصطفى: لكن يا أمى..
- الأم مقاطعة: أطعنى.. واكسب رضائى عنك.
كانت الشامية ترتعد من أن يُلدغ ابنها من نفس العقرب الذى لدغ أباه.