بقلم - د. محمود خليل
الكذب المتفق عليه يفقد أثمن الأشياء قيمة فى الحياة قيمتها.يمكن تشبيه هذا النوع من الكذب بما يحدث فى المسارح أو دور السينما، حيث يتفق كل من الممثل والجمهور على الحياة داخل كذبة لفترة معينة من الوقت.
يبدو الممثل جيداً إذا تمكن من إقناع المشاهد بـ«صدق كذبه»، ليتأثر إحساس الجمهور، فينخرط فى الضحك أو البكاء أو النفور أو التعاطف رغم أنه يعلم أن ما يشاهده كذب فى كذب.على سبيل المثال تجد الكذب المتفق عليه يكاد يصبح القاعدة الأخطر التى تفسر لك حال التعليم لدينا.. فبعض المعلمين أو الأساتذة يدخلون الفصل أو المحاضرة، وهم فى قمة الضجر والزهق، ويقفون أمام تلاميذ وطلاب لا يقلون عنه ضجراً أو مللاً، وفى ظل هذا المناخ لا تنتظر علماً ولا تعليماً، بل تجد الأمر أشبه باتفاق غير معلن بين طرفين، أحدهما لا يريد أن يعلّم والثانى لا يريد أن يتعلم.. لأن المسألة فى نظر الطرفين «موش فارقة».. والأمر كله فى الأول والآخر شهادة، اتفق المجموع على أنها لا تسمن ولا تغنى من جوع.
الكذب المتفق عليه فى مجال مثل التعليم يعنى ببساطة «مسرحة التعليم»، وعملية المسرحة تلك قد تمتد إلى نواحٍ أخرى عديدة من الحياة، مثل «مسرحة العلاقة بين الزوجين»، فيبدو الزوج والزوجة على أعلى مستوى من الاتفاق والوفاق أمام الناس فى صورة من صور الكذب المتفق عليه، حتى إذا خلوا إلى بعضهما البعض انطلق كل منهما يؤدى على طبيعته، لتتجلى معالم العلاقة الحقيقية، أو أن يبدو الأطفال مهذبين طيبين مطيعين أمام الضيوف، بتوجيهات من الأب والأم، حتى إذا غادر الغرباء عادوا إلى سيرتهم الأولى.
فى بعض الأحوال تصل عملية المسرحة إلى أقدس الأماكن، مثلما يحدث داخل دور العبادة، فيتحدث الإمام بما لا يقتنع، لمجرد ملء الوقت، وتأدية الواجب، ويمثل المأموم أنه ينصت، ويفرح حين ينتهى من واجب الاستماع، ويخطف العبادة، وينطلق.. أكثر الأشياء قيمة تفقد رونقها الأخلاقى حين يسيطر عليها «الكذب المتفق عليه».
أذكر أننى قرأت ذات مرة مقالاً مطولاً للراحل الدكتور طه حسين عنوانه «أعذب الشعر أصدقه».. وهى فكرة عارض بها القاعدة الشائعة التى تقول: «أعذب الشعر أكذبه». فطبقاً لما هو معروف يلجأ الشاعر، مثل كل صناع الفنون، إلى الكذب المقنع، حتى يؤثر فى سامعه أو قارئه، وليس شرطاً أن يعبر الشاعر عن أحاسيس حقيقية يعيشها، بل قد يصنعها صناعة، أو يمثل على المتلقى أنه يعيشها.
تحدى عميد الأدب العربى هذه الفكرة، ودعا الشعراء إلى الكتابة عما يعيشونه من معانٍ وأحاسيس حقيقية وواقعية، وناقض الشائع وذهب إلى أن «أعذب الشعر أصدقه».