بقلم - د. محمود خليل
سنتان مرتا على خروج الحملة الفرنسية من مصر، بدا المشهد خلالهما وبعدهما شديد الارتباك. فخلال ما لا يزيد على 4 سنوات تبدل الكثير من الولاة العثمانيين على حكم المحروسة.
مات مراد بك عام 1801 وتقلص دور إبراهيم بك، فى الوقت الذى صعدت فيه أدوار المملوك محمد الألفى والمملوك عثمان البرديسى.
كان «خسرو باشا» أول والٍ عثمانى على المحروسة بعد خروج الفرنسيين، ولم يمكث فى الحكم أكثر من عام، ثم لاذ بدمياط هرباً من المشكلات الاقتصادية التى وجد نفسه عاجزاً عن حلها، وتولى السلطة من بعده طاهر باشا، وكان ذلك عام 1803، الذى شهدت فيه مصر أوضاعاً اقتصادية شديدة البؤس، وظروفاً معيشية عظيمة الضنك، بات المصريون فريسة لكل المتصارعين على حكم البلاد من انكشارية وأرناؤوط، بالإضافة إلى المماليك المصرلية.
عام 1803 كان قاسياً على المصريين، تعقدت فيه الأوضاع وشحت الأقوات وقلت الأعمال. احتمل أهالى المحروسة الشعور بمرارة الحرمان، لكن ما لم يتمكنوا من تحمله حقاً هو رذالات الأرناؤوط التى بدأت بالأذى بالكلمات، ثم الضرب، ثم السلب والنهب. وكان المحرك الأول لهم هو طاهر باشا.
فقد ناور بجنوده على منافسيه لكى يضطر المشايخ والأعيان إلى المناداة به والياً على مصر، من منطلق أن الذى عقد العقدة هو القادر على حلها، وبذا يتمكن من هزيمة منافسيه. تحولت الحياة إلى جحيم بفعل ممارسات الأرناؤوط، الذين استحلوا سرقة كل شىء، بما فى ذلك «العمائم» التى اعتاد المصريون على ارتدائها فى ذلك الوقت. كان الأرناؤوط يتربصون بأى مارٍ فى الطريق فيخطفون عمامته، ثم «يشلحون ثيابه» بتعبير «الجبرتى»، ويترصّدون للذاهبين إلى الأسواق -مثل سوق إمبابة- لشراء الاحتياجات، فيهجمون عليهم ويسلبونهم الدراهم التى يحملونها لشراء طعام من يعولون. وبعد أن يفرغوا من ذلك يدخلون إلى السوق نفسه ليسلبوا الفلاحين بضاعتهم، فتوقف الفلاحون عن التحرّك ببضائع إلى الأسواق.
ونتيجة لذلك شحّت البضائع بالأسواق وارتفعت أسعار السلع وعمّ الغلاء بصورة غير مسبوقة، حتى بات «التبن أعز من التبر» كما يقول «الجبرتى»، وهى الجملة التى تحولت بعد ذلك إلى مثل ردّده المصريون عبر العصور. فقد كان الأرناؤوط يقيمون أسواقاً خاصة يبيعون فيها ما نهبوه من بضائع بأغلى الأسعار.
انتهى المشهد بتولية طاهر باشا قائد الأرناؤوط قائمقامية مصر، لكن ولايته لم تدم أكثر من 26 يوماً، انتهت بقتله على يد اثنين من الانكشارية، أما على باشا الجزايرلى الذى تولى الحكم بعد «طاهر» فقد استدرجه المملوك عثمان البرديسى وقتله، ليثب على ولاية مصر من بعده خورشيد باشا.
تولى الحكم بعد ذلك الوالى محمد على، وذهب هو الآخر، وذهب من بعده أولاده وأحفاده، واختفى عالمهم ليبدأ عالم آخر، لكن المثل الذى يقول «التبن أعز من التبر» -أى أعز من الذهب- عاش فى حياتنا، وانتقل من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا، ليبقى شاهداً على رحلة المعاناة التى تتواصل فى حياة أصحاب الذات المهدرة.