بقلم - د. محمود خليل
8 سنوات عاشها الحسن بعد التنازل عن الخلافة لمعاوية، يعانى فيها من نقد الأقرباء، وشماتة الأعداء، ليس ذلك فقط، بل ما أكثر من انكسر قلبه وهو يسمع الإساءات توجه إلى أبيه على بن أبى طالب من بعض بنى أمية، ممن لا يعرفون قدر من ينالونه بألسنة السوء.
كان هؤلاء ينالون «الحسن» أيضاً بالإساءة، وهو يعالجهم بالحلم والصفح، بل ويكرم ويعين من أساء إليه إن كان بحاجة إلى إكرام أو معونة.عالج «الحسن» ضغوط الناس عليه بما يليق بخُلقه الرفيع. كيف لا وهو الرجل الذى تشرّبت روحه من روح النبى، صلى الله عليه وسلم.
أهدى «الحسن» الاستقرار إلى الناس وأعادهم إلى دوائر الحياة الطبيعية من جديد، ولم يحمد له أحد ذلك، بل لاموه عليه، فظل يدفع ثمن خوفه على الناس حتى آخر يوم فى حياته، حين دفع حياته نفسها ثمناً لخطوة خطاها مع معاوية من أجل حقن دماء المسلمين، لم يقدّرها الأخير حق قدرها، ونكص عليها، فى اللحظة التى قرر فيها أن يحول الخلافة إلى ملك عضوض (وراثى)، فينقل الحكم إلى ولده «يزيد» ليكون خليفة للمسلمين من بعده، ولم يكن له أن يتمّم ذلك إلا بعد اختفاء «الحسن»، الذى كان سيلى الخلافة من بعده، طبقاً لاتفاق التنازل المبرم بينهما.
عاش «الحسن» فى المدينة بعد إبرام اتفاق التنازل مع معاوية، وكان واليها فى ذلك الوقت هو الأموى مروان بن الحكم، ولم يكن الأخير يترك فرصة إلا ويسىء فيها إلى الرجل، ويغلظ له فى القول، دون أن يراعى حرمة أو مكانة أو قرابة، و«الحسن» يصبر ويعالجه بالحلم، والثانى لا يلين.
واللافت أنه بعد وفاة الحسن سنة 49 هجرية، سار «مروان» فى جنازته يبكى وينتحب، وهو الذى منذ لحظات رفض أن يدفن السبط إلى جوار جده، ناهيك عما فعله معه فى حياته.
لحظتها نظر الحسين بن على إلى مروان وقال له: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟!. فرد قائلاً: إنى كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل.ثمانى سنوات قضاها «الحسن» بين الناس بعد تنازله عن الخلافة، تمثل فيها مبادئ القرآن الكريم فى التعامل مع المسىء، كقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».
وقد انقلب سلوك المسيئين إليه فى الكثير من المواقف إلى إحساس بالشعور بالخزى من رجل ابتلع تطاولهم عليه، وعاملهم بأخلاقه النبيلة. وقد كان «الحسن» واحداً من النماذج الباقية الشاهدة على خلق النبى، صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الشَّبه بينه وبين جده مسألة تتعلق بالملامح فقط، بل وبالأخلاق أيضاً. فقد كان الحفيد يتمثل ما تشربته روحه فى طفولته المبكرة من أخلاقيات جده وما سمعه عنه بعد ذلك من المحيطين به، وما رآه بعينيه فى أخلاق من سبقوه من الخلفاء الراشدين.