بقلم - د. محمود خليل
"الحسن" هو أكبر أبناء علي بن أبي طالب، وحبه لأبيه كان عريضاً، وخوفه عليه كان كبيراً. ومؤكد أن علياً كان يتفهم ذلك، ويعلم أن ابنه "البكري" سر أبيه، لذا فقد كان يسمع منه، لكن التركيبة النفسية لـ"علي" والتي تعودت المواجهة، وامتلكت القدرة على تحمل المسئولية في أصعب الظروف، أحياناً ما كانت تصده عما يقوله ولده، وما أكثر ما ردد على مسامعه قوله: "ما زلت تحن علي حنين الجارية"، وفي النهابة يملي ما يريد.
نصح الحسن أباه بأن يترك المدينة بما فيها ومن فيه ويذهب إلى غيرها، لئلا يقتل الخليفة وهو بها، فيغمز الناس في حقه، لكن علياً أبي.
كل الشواهد كانت تقول أن الصراع الناشب سوف ينتهي بكارثة، وقد توقعها "الحسن" مبكراً، وبعد أن وقعت نصح أباه ألا يقبل الخلافة، إلا بعد أن يبعث له كل أهل الأمصار ببيعتهم، بما فيهم بالطبع معاوية بن أبي سفيان والي الشام، ورفض "علي" من جديد، وعندما ثار طلحة والزبير ومعهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم، وطالبوا علياً –الخليفة الجديد- بالثأر لعثمان من قاتليه، نصحه "الحسن" أن يعتزل الناس في بيته، ولا يدخل في مواجهة معهم، وأبى علي ذلك.
كان لعلي بن أبي طالب وجهة نظر مخالفة، وقد فند كل حجج الحسن، ونبهه إلى أن مسألة الخروج من المدينة لم تكن سهلة، بعد أن حوصر الجميع فيها، أما قبوله الخلافة قبل أن تأتيه البيعة من كل الأمصار، فكان مردها الخوف من انفراط عقد المسلمين، بسبب حالة الفراغ في السلطة، وبالنسبة للخروج لواقعة الجمل، فقد أبى علي –كما كان يردد- أن يكون مثل الضبع التي يحاط بها من كل مكان، لتصبح فريسة في بد أعدائها.ما أكثر ما كان "الحسن" يقول لأبيه "تقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك"، وما أكثر ما كان يردد الأب بأسى "كف عني يا بني".
سارت الأمور كما توقع الحسن، اقتتل المسلمون في واقعة الجمل، وحسم علي الأمر لصالحه، ثم كان الاقتتال في "صفين"، ثم التحكيم وانشقاق الخوارج، وانتهى المشهد كما تعلم باغتيال الخليفة الرابع علي بن أبي طالب على يد عبد الرحمن بن ملجم.
لحظتها وقف "الحسن" يبكي أباه المغدور.أداء "الحسن" خلال الأحداث المتسارعة التي شهدتها المدينة بعد حصار المعارضين لدار الخلافة يدلل على عقلية تجيد الحسابات السياسية، وتتفهم جيداً تركيبة الفاعلين السياسيين داخل المشهد، وتستطيع أن تتوقع خطواتهم، وكان من الحكمة بحيث يقدم مقترحات سديدة للتعامل مع المواقف المعقدة، وكان "علي" يستوعب أن ولده الأكبر يخاف عليه ويصدقه النصح، لكن عقله كان مسكوناً بنصائح عمه "العباس" بالدرجة الأكبر، وقد كان العم كثير الاتهام لابن أخيه بالتردد في أمر الخلافة، فلم يسمع له حين طلب منه أن يدخل للنبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته يطلب منه كتاب عهد بالخلافة من بعده، ولم يسمع له في مواقف أخرى شبيهة خسر فيها جميعاً، وحين وقعت الواقعة واغتيل عثمان، خاف علي بن أبي طالب أن يتردد هذه المرة، فحسم أمره وقبل الخلافة في ظرف انقسام، وخسر بذلك كثيراً.