بقلم - د. محمود خليل
تمكنت «العامية» من غزو اللغة الفصحى في واحدة من قلاعها الحصينة، هي قلعة الأدب والشعر، بل والصحافة أيضا.
فقد دخلت العامية إلى الشعر كتفا بكتف إلى جوار الفصحى، وقد سجّل علماء الحملة - ضمن كتاب وصف مصر- في الجزء المعنون بـ«موسيقى وغناء المصريين المحدثين» الكثير من الأغاني التي جمعوها من مناطق عدة بمصر، وأغلبها بالعامية التي راجت في الشارع المصري، والأمر نفسه ينطبق على الملاحم، مثل ملحمة أبوزيد الهلالي، وعنترة بن شداد وغيرهما التي أبدعتها القريحة الشعبية بلغة الشعب.
وفي الصحافة لجأ عبدالله النديم لأول مرة في تاريخ الصحافة المصرية إلى اللغة العامية في كتابة مقالات، يستطيع أن يخاطب من خلالها العقل والوجدان الشعبي.
كانت «الفصحى» في هذه المجالات صامدة، وقد تمكن شاعر بحجم أحمد شوقي من إنعاشها وتطويرها في مجال الشعر، وهام بها في آفاق عليا، واحتفظ كبير كتاب الرواية المصرية في القرن العشرين «نجيب محفوظ» بالسردية الفصحى في رواياته، وتألق صوت أم كلثوم على أنغام رياض السنباطي في إنتاج العديد من القصائد الفصحى الدينية، مثل: «نهج البردة، وولد الهدى، وسلوا قلبي»، ومن بعد «رباعيات الخيام وحديث الروح والثلاثية المقدسة»، وانطلق صوت «الست» متألقا بالعديد من الأغاني العاطفية الفصحى، مثل: «الأطلال، ومن أجل عينيك، وأقبل الليل، وأغدا ألقاك، وهذه ليلتي، وقصة الأمس، وأراك عصي الدمع، وثورة الشك».
أخلصت أم كلثوم رحمها الله للفصحى، كما لم يخلص لها مطرب في تاريخ الغناء العربي، وأخلص «السنباطي» في ألحانه لعيون الشعر العربي القديم والمعاصر، حتى تذوق كلماته أبسط المواطنين المصريين في القرى والنجوع وفي العشوائيات الحضرية، تماماً مثلما استمتع بها أهل الطبقة الوسطى، وطبقة المتنفذين داخل المحروسة مصر. فعبر هذه القصائد اكتسبت العربية الفصحى شعبية سماعية لدى الشارع المصري لم تحققها في تاريخها منذ أن سادته أواخر حكم الفاطميين.
ولا يعني ذلك بحال أن العامية تراجعت، بل تقدمت وتنورت، والفضل في ذلك يعود إلى ظهور شعراء كبار أبدعوا في تحويل لغة الشارع المصري إلى شعر وفن وأدب، وكبيرهم في هذا السياق صاحب المقام الرفيع «بيرم التونسي»، ومن بعده ظهرت روعات «صلاح جاهين» الذي وظف العامية كوعاء للحكمة والتفلسف في رباعياته الشهيرة التي يعارض فيها صاحب الرباعيات الأشهر في تاريخ الشعر العالمي الشاعر الفارسي عمر الخيام، ومعه ظهر فؤاد حداد بإبداعاته الخالدة التي جعلت منه كبير مسحراتية المحروسة.
على يد هؤلاء المبدعين المصريين في مجال الشعر والغناء، ثم بعد ذلك على يد منتجي الدراما الإذاعية والتليفزيونية تمكنت العامية المصرية من غزو خلايا عقل ووجدان المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج، وباتت العامية التي يستطيع الجميع فهمها واستيعابها على اختلاف ما يسيطر عليهم من لهجات، واشتهرت في العالم العربي كله كأهم أداة ناعمة تملكتها مصر منذ أن سادتها اللغة العربية كلغة رسمية للبلاد والعباد، بدءا من القرن الخامس لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.