بقلم - د. محمود خليل
لم يستطع أحد أن يصور دنيا الحرافيش وآمالهم وآلامهم كما فعل نجيب محفوظ، ولو أنك طالعت الأسلوب الذى تحدّث به الجبرتى عن «حرافيش المحروسة» خلال تناوله لبعض الأحداث التى شاركوا فيها، وكمّ التحقير والامتهان الغالب على خطابه عنهم، وقارنته بالصور التى رسمها أديب نوبل لهذا القطاع من المصريين فسوف تخلص إلى حقيقة أن «محفوظ» تمكّن من تقديم «عالم الحرافيش» بشكل أكثر موضوعية وعدلاً.
انظر كيف يصف «الجبرتى» شرارة انطلاق ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر 1798): «فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا فى ذلك، ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذى لم ينظر فى عواقب الأمور، فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم، ولا قائد يقودهم، وأصبحوا يوم الأحد متحزبين، وعلى الجهاد عازمين، وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح فى الكلام: نصر الله دين الإسلام».
فالحرافيش حشرات وزعر (أى بلطجية بالتعبير المعاصر) وغوغاء (أى فوضويين) وفى مواضع أخرى يصفهم «الجبرتى» بـ«المنسر» أى اللصوص وهكذا. وليس هناك خلاف على أن حركة «الحرافيش» غير محسوبة فى أغلب الأحيان، فقد انفجر غضبهم بعد بضعة أشهر من دخول الفرنسيين إلى مصر (يوليو 1798)، وانطلقوا يحطمون ما يلاقونه فى طريقهم، بدا الانفجار مفاجئاً، لكن مؤكد أن أسباباً عديدة كانت تتراكم فى الخلفية تنتظر القشة الشهيرة التى تقصم ظهر البعير.
كان العلماء والمشايخ فى ذلك الوقت جزءاً من طبقة الحكم، لم يرضوا جميعهم بالاحتلال الفرنسى لمصر، لكنهم كعادتهم استسلموا للغالب، وقبل بعضهم الانضمام إلى الديوان الذى شكّله نابليون للنظر فى صالح الأهالى، وبالتالى فقد تكونت لديهم شبكة مصالح أرادوا الحفاظ عليها، لذلك لم يكن لهم أن يقبلوا بسهولة فكرة الفوضى التى تجتاح ما فى طريقها، وتنازعهم إحساسان متناقضان وهم يراقبون خروج الحرافيش فى ثورة القاهرة الأولى، أولهما تشجيع ما يحدث كجزء من حركة تحرير البلاد من المستعمر، وثانيهما الخوف من أن تطال غضبة الحرافيش مصالحهم، وتقلقل أوضاعهم كجزء من طبقة الحكم.
التقط نجيب محفوظ من «الجبرتى» ما يمكن وصفه «بالحالة الحرفوشية» وأعاد رسمها فى صور روائية بديعة كان مسرحها حارته الشهيرة، وهى صور تحكمها معادلة البحث عن فتوة يحمى «المجموع الحرفوشى» من طغيان الفتوة «طبقة الحكم داخل الحارة».
المجموع الحرفوشى يطمح إلى إتاحة الفرصة له لكى يجرى وراء لقمة عيشه بلا مهانة أو إهدار للكرامة، وحمايته من طغيان «رجال الفتوة» الذين يرهقونه بالإتاوات، والعيش تحت مظلة عدل لا تمكّن رجال المال داخل الحارة من استنزاف واستغلال جهد عملهم وتحويله إلى ثروات طائلة. وفى الوقت نفسه لم يهرب «محفوظ» من نقل ما يسود حياة الحرافيش من فوضى، وانعدام الطموح، والرغبة فى الحياة البليدة غير المنتجة كلما واتتهم فرصة لذلك، ناهيك عن صبرهم الطويل ثم انفجارهم لأتفه الأسباب.
تعامل نجيب محفوظ مع الحرافيش من منظور مختلف بعدسة مستوية لا هى محدبة ولا هى مقعرة، مثلما فعل «الجبرتى» حين وصفهم بـ«الحشرات».